دأبَ عددٌ من المسؤولين الإسرائيليين منذ عام 2021 على اقتراح سياسات جديدة لإدارة احتلالهم في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وغزة. وهذه السياسات متجذرة في مفهوم "تقليص الصراع" الذي استحدثه المؤرخ الإسرائيلي ميخا غودمان في عام 2018 والذي يوصي بإدارة "الصراع بحيث لا يرقى إلى درجة الحرب، مع تحسين حياة السكان الفلسطينيين."
تهدف هذه المقاربة التي تُعدُّ نسخةً منقحة من نموذج "السلام الاقتصادي" الذي تبناه بنيامين نتنياهو إلى ترسيخ الاحتلال العسكري الإسرائيلي للحيلولة دون إقامة دولة فلسطينية من جهة ومنع الوصول الى واقع الدولة الواحدة. وبخلاف استراتيجية "السلام الاقتصادي"، فإن مقاربة "تقليص الصراع" مصممة لتقليل "موجات الإرهاب والاشتباكات العنيفة" الفلسطينية من خلال توسيع مزعوم لحريات الفلسطينيين ضمن نظام الفصل العنصري الإسرائيلي.
تبين هذه الورقة السياساتية العلة الكامنة في مقاربة "تقليص الصراع" الإسرائيلية والتغيرات السياساتية التي تنطوي عليها. وتبحث في القرارات الاقتصادية الجديدة التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية تجاه الضفة الغربية وغزة، وتبين تداعياتها الخطيرة المحتملة على الفلسطينيين. وتحاجج بأن الأجندات الإسرائيلية التي لا ترقى إلى مستوى التفكيك الكامل لأنظمة الفصل العنصري والاحتلال والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلية لن تُفضي إلى تحسين حياة الفلسطينيين ولن تضمن رضاهم بالوضعَ الراهن.1
استحدث غودمان مفهوم "تقليص الصراع" كحل للخلاف المتنامي بين ما يسمى اليسار الإسرائيلي الداعي إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي درءًا لواقع الفصل العنصري القائم على الدولة الواحدة، واليمين الإسرائيلي المعارض لأي انسحاب إسرائيلي من الأراضي المحتلة عام 1967. ولا بد من النظر إلى هذه المقاربة على أنها نسخة جديدة من سالفتها استراتيجية "إدارة الصراع" من خلال "السلام الاقتصادي." فقد رسَّخت السياسات التي وُضعت من خلال اجندة "السلام الإقتصادي" التبعية الاقتصادية الفلسطينية للنظام الإسرائيلي، وفي نفس الوقت لم تتوانى عن استخدام الأساليب العسكرية القمعية ضد الفلسطينيين.
على النقيض من ذلك، يَفترض نهج "تقليص الصراع" أن أدوات القمع الإسرائيلية تتسبب في احتكاكات يومية "لا داعي لها" تزيد احتمالات تنامي "المظالم" فلسطينية، وتؤدي بالتالي إلى اشتباكات عنيفة. وبموجب هذه الاستراتيجية، لا يحتاج النظام الإسرائيلي إلى تفكيك احتلاله، وإنما إلى إدارته على نحو مختلف وأقل قمعًا في ظاهره. وهكذا، فإن مقاربة "تقليص الصراع" تخلَّت تمامًا عن كل مناقشة جادة لحل الدولتين.
تفترض مقاربة 'تقليص الصراع' في جوهرها افتراضًا خاطئًا بأن المقاومة الفلسطينية هي مقاومة لا سياسية ولا علاقة لها بالنضال من أجل التحرر من الفصل العنصري والاحتلال الإسرائيليين CLICK TO TWEET
لقد استُحدثت سياسات "السلام الاقتصادي" لزيادة الاعتماد الاقتصادي الفلسطيني على إسرائيل تحت غطاء الدولتين لإيجاد شريحةٍ من المجتمع الفلسطيني متواطئةٍ مع استمرار الوضع الراهن. والأهم من ذلك هو أن هذه السياسات أوجدت نخبةً اقتصادية فلسطينية مِطواعة عملت بموازاة سلطات الاحتلال الإسرائيلي من أجل قمع الشارع الفلسطيني المُمانع قمعًا عنيفًا. ولم يتضمن نهج "السلام الاقتصادي" بنودًا لتخفيف معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي.
وفي حين أن نموذج "تقليص الصراع" يواصل انتهاج سياسات اقتصادية مماثلة، فإنه يقترح سُبلًا يمكن من خلالها الاعتراف "برغبة الشارع الفلسطيني في نيل حقوقه المدنية الكاملة" دون أن تُضطَر إسرائيل إلى إنهاء احتلالها، ودون الاعتراف بحدود ذات سيادة فلسطينية. وعليه، فإن توفير تسهيلات اقتصادية للفلسطينيين، ومنحهم حريةً أكبر في التنقل داخل الضفة الغربية والوصول إلى العالم الخارجي، هو جزء من استراتيجية إسرائيلية أشمل تهدف إلى الحدّ من التظلمات المنبثقة من الاحتلال من أجل إدامته. ويستند هذا إلى الافتراض العنصري بأن الفلسطينيين سوف يرضخون للاحتلال الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي إذا خُفِّفت آليات القمع وأُخفيت أكثر.
تفترض مقاربة "تقليص الصراع" في جوهرها افتراضًا خاطئًا بأن المقاومة الفلسطينية هي مقاومة لا سياسية ولا علاقة لها بالنضال من أجل التحرر من الفصل العنصري والاحتلال الإسرائيليين، وإنما تعتقد بأن معظم المواجهات العنيفة بين الفلسطينيين والإسرائيليين تنبع من الظروف المريرة التي يعيشها الفلسطينيون. وهكذا تفترض المقاربة بأن الاحتلال الإسرائيلي ليس هو ما يُديم الصراع، وإنما الطريقة التي يُدار بها من خلال القمع العلني للفلسطينيين. وعليه، فإن إعادة صياغة الاحتلال لجعل الحياة "أسهل" على الفلسطينيين قد يؤدي إلى "تقليص الصراع" - مع ضمان استمرار الاحتلال.
على الرغم من محاولات غودمان لجسر الهوة بين مكونات الطيف السياسي الإسرائيلي من خلال هذه المقاربة، إلا أن "اليسار" الإسرائيلي آخذ بالتلاشي بسرعة، ويمكن القول إن القيادة الإسرائيلية الحالية باتت منقسمة بين اليمين البراغماتي واليمين المتطرف، وكلاهما يرفض المفاوضات السياسية وإقامة الدولة الفلسطينية. لذا، فإن أي إجراءات إسرائيلية جديدة "لتقليص الصراع" - من خلال تخفيف الأساليب العسكرية القمعية أو زيادة فرص الفلسطينيين الاقتصادية - هي بالضرورة وسيلة لإدامة الوضع الراهن للاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وغزة.
أطلقت مجموعةٌ من الطلاب والسياسيين الإسرائيليين الشباب "مبادرة تقليص الصراع" في عام 2019 بناءً على توصيات غودمان الثمان من أجل "تحسين" حياة الفلسطينيين بما ينفع إسرائيل. ومنذ ذلك الحين، شارك أعضاء المبادرة في معظم جلسات الكنيست التي ناقشت أمور تتعلق بالاقتصاد الفلسطيني والمنطقة (ج) من الضفة الغربية وغزة. وتتجلى مقاربة "تقليص الصراع" في البرنامج الانتخابي لحزب الأمل الجديد، وقد دافع عنها اليميني نفتالي بينيت (عن حزب يمينا السابق) وما يُسمى بالوسطي يائير لبيد (زعيم حزب "يوجد مستقبل") على حد سواء.
تهدف التوصيات الأربع الأولى من توصيات غودمان إلى زيادة الشعور بالحرية لدى الفلسطينيين تحت الاحتلال. أولاً، يدعو غودمان إلى وضع خطة عسكرية إسرائيلية لربط جميع الكانتونات الفلسطينية في المنطقتين (أ) و (ب) بطرق جديدة. ويقوم اقتراحه هذا على حقيقة أن محدودية التنقل داخل الضفة الغربية تجعل حياة الفلسطينيين صعبة وعسيرة لأنهم يواجهون على الدوام نقاط التفتيش الإسرائيلية والمستوطنات والدوريات العسكرية وحواجز الطرق. ولذا فإن خلق طرق متصلة وأكثر كفاءةً في الاستخدام ومقتصرة على استخدام الفلسطينيين من شأنها أن تُخفي البنية التحتية للاحتلال، وهو ما سيمنح الفلسطينيين شعورًا بأن الاحتلال قد اختفى بطريقة ما.
يقترح غودمان أيضًا نقلَ أجزاء من المنطقة (ج) إلى المنطقة (أ) لتمكين الفلسطينيين من توسيع مساكنهم حسب الحاجة. غير أن ذلك لا يعني انسحابًا إسرائيليًا تدريجيًا من المنطقة (ج)، بل يعني أن إسرائيل مستعدة لنقل أجزاء محدودة من المنطقة (ج) إلى الفلسطينيين لأنها مجاورة لقراهم ولا تصلح للتوسع الاستيطاني. فضلًا على أن الفلسطينيين يدركون بسرعة أن هذه البادرات غالبًا ما ترتبط بالتوسع الاستيطاني الإسرائيلي. فقد وافقت الحكومة الإسرائيلية في 2021، ولأول مرة منذ 20 عامًا، على بناء ما يزيد على 1,000 وحدة سكنية للفلسطينيين في المنطقة (ج) بعد أيام فقط من موافقتها على بناء 2,200 وحدة استيطانية إسرائيلية في المنطقة (ج) أيضًا. وهكذا يمكن القول إن نقل أي جزء من المنطقة (ج) إلى المنطقة (أ) لبناء مساكن للفلسطينيين، في حال ترافق مع توسيع الاستيطان الإسرائيلي، من شأنه أن يعزز المقاومة الفلسطينية.2
تقتضي استراتيجية "تقليص الصراع" تسهيل اتصال الفلسطينيين بالعالم الخارجي. ولهذه الغاية، يقترح غودمان منح الفلسطينيين حرية الوصول إلى المطارات الإسرائيلية. وقد أخذ النظام الإسرائيلي خطوةً في هذا الاتجاه في عام 2022، حيث سمَحَ للفلسطينيين من الضفة الغربية بالسفر عبر مطار رامون الواقع في جنوب النقب. وفي حين أن هذه الخطوة تبدو مفيدةً في ظاهرها، إلا أنها لا تؤدي إلا إلى زيادة السيطرة الإسرائيلية على الفلسطينيين، حيث إن الوصول إلى مطار رامون يقتضي من الفلسطينيين استخدام البنية التحتية للمواصلات الإسرائيلية، الأمر الذي يدفع النظام الإسرائيلي إلى زيادة آليات المراقبة المستخدمة لديه.
أخيرًا، يقترح غودمان توصيةً تناقض توجهات الحكومات الإسرائيلية بحيث تدعمَ إسرائيلُ الجهودَ الدبلوماسية الفلسطينية لنيل الاعتراف الدولي بدولة فلسطين، ولكن دون الاعتراف بحدود تلك الدولة. وفي حين أن الاعتراف بالدولة من شأنه أن "يعزز إحساس الفلسطينيين بالحرية والاستقلال"، يوضح غودمان أن عدم الاعتراف بالحدود من شأنه أن يسهل عمل قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، بحيث لا تُعدُّ الاقتحامات الإسرائيلية انتهاكات لأراض سيادية - وهو عنصر مهم من مقترحه الأصلي باللغة العبرية حُذف من الترجمة الإنجليزية. وبغض النظر عن ذلك، فإن من غير المرجح أن تدعم إسرائيل الدولة الفلسطينية مهما كان النظام الإسرائيلي الحاكم، ولا سيما في ظل الحكومة الائتلافية الإسرائيلية اليمينية المتطرفةالجديدة.
دأبَ النظامُ الإسرائيلي على تسخير الاقتصاد للسيطرة على الفلسطينيين واسكاتهم. وهذا ما ينص عليه بروتوكول باريس الاقتصادي لعام 1994، وهو اتفاق مبرم بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية يوحي بوجود استقلال اقتصادي فلسطيني بينما يجعل الفلسطينيين معتمدين اقتصاديًا على النظام الإسرائيلي. فعلى مدار السنوات الخمس الماضية، اقتصرَ كلُّ ما فعلته القيادة الإسرائيلية على تطوير نموذج نتنياهو "للسلام الاقتصادي"الذي يقع مباشرةً ضمن إطار بروتوكول باريس الاقتصادي.
إسرائيل تمارس المكر والتغرير لتضمن الضم الفعلي للمراكز المهمة للإنتاج الاقتصادي الفلسطيني، ولتضمنَ إسكات المعارضة الفلسطينية من خلال الحوافز الاقتصادية CLICK TO TWEET
إن أي سياسات اقتصادية إسرائيلية جديدة تمنح التجار والعمال الفلسطينيين فرصًا للتنقل والتعاون مع إسرائيل من أجل رفع مستوى معيشتهم على حد زعمها - وبالتالي "تقليص الصراع" - هي في أساسها خاطئة وغير منطقية، ولا بد من فهمها على أنها وسيلة لترسيخ التشرذم الجغرافي والاقتصادي الفلسطيني، والاعتماد الاقتصادي على إسرائيل، ضمن حالة من الافقار التنموي.
صُمِّمت مقاربة غودمان الهادفة إلى "تقليص الصراع" من أجل تمكين مراجعة بروتوكول باريس الاقتصادي، بما في ذلك من خلال التعاون الاقتصادي بين الفلسطينيين والنظام الإسرائيلي. وفي إطار هذه المقاربة، حضرَ رئيسُ الوزراء الإسرائيلي السابق يائير لبيد ورئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية اجتماعًا في أيلول/سبتمبر 2022 برعاية وزارة الخارجية النرويجية بهدف تعزيز جهود إقامة الدولة الفلسطينية. وفي وقت لاحق، اقترحت لجنة الاتصال الخاصة إعادة هيكلة العلاقات المالية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكذلك إحياء اللجنة الاقتصادية المشتركة، التي جُمِّدت عقب اندلاع الانتفاضة الثانية. غير أن هذين الاقتراحين لم يترجما عملياً لغاية الآن، ومن المرجح أن يتم التخلي عنهما تمامًا في حكومة نتنياهو السادسة.
يقترح غودمان أيضًا تسهيلات اقتصادية إضافية - بناءً على التغييرات السياساتية التي أوصى بها معهد دراسات الأمن القومي - تهدف إلى ضمان اذعان الفلسطينيين سياسيًا. فهو يؤيد، مثلًا، تخصيصَ أراضٍ إضافية تدريجيًا في المنطقة (ج) للتعاون الاقتصادي الفلسطيني الإسرائيلي، بما في ذلك الاستثمار الأجنبي والمدن الصناعية الإضافية التي ستبقى في حال إنشائها تحت السيطرة الإسرائيلية. ستُضاف هذه المشاريع إذا أُنشئت إلى المشاريع القائمة، مثل مدينة بيت لحم الصناعية متعددة التخصصات ومدينة أريحا الزراعية الصناعية، وهي مشاريع لم ينجح في تحقيق أهدافها المتمثلة في دعم النمو الاقتصادي الفلسطيني. يعتمد مقترح غودمان على الاستثمار الأجنبي - وهو بمثابة تذكير مهم بأن "تقليص الصراع" يخدم أيضًا مصالح أصحاب مصلحة آخرين خارج فلسطين المستعمرة.
يدعو غودمان كذلك إلى إنشاء طرق لوجستية "آمنة" داخل الضفة الغربية لتسهيل عملية نقل البضائع الفلسطينية إلى الأسواق الإسرائيلية، وبالتالي تحفيز المزيد من التجار الفلسطينيين على المشاركة والعمل مع النظام الإسرائيلي. وهو يدعو أيضًا إلى زيادة العمال الفلسطينيين في أراضي 1948 وتنويعهم. وبينما قد تبدو هاتان السياستان مفيدتان للفلسطينيين، إلا أنهما تزيدان من إخضاعهم الاقتصادي:
عملت الإدارة المدنية الإسرائيلية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية واللجنة الرباعية إلى جانب العديد من كبار المنتجين الفلسطينيين، منذ عام 2018، على إرساء نموذج جديد لتصدير البضائع الفلسطينية إلى الأسواق الإسرائيلية من خلال تمكين الشاحنات الإسرائيلية من دخول المنطقة (أ) وتحميل البضائع مباشرة من أبواب المصانع الفلسطينية. يختصر هذا النموذج الجديد المسمى "من الباب إلى الباب" الوقتَ المستغرق في نقل المنتجات إلى حدٍ كبير ويُبسط عملية إدخال البضائع الفلسطينية إلى الأسواق الإسرائيلية.
يُروَّج هذا النموذج على أنه مفيدٌ ماليًا لكبار المنتجين الفلسطينيين حيث سيُمكِّنهم من زيادة الإنتاج وزيادة أرباحهم بعد الامتثال للشروط الإسرائيلية. غير أنه يتطلب مقتضيات أمنية عديدة من الفلسطينيين: 1) يجب على المصانع الفلسطينية إقامة حواجز إسمنتية وسياج سلكي مزوَّد بنظام إنذار متصل مباشرة بمكتب عسكري إسرائيلي عند أقرب بوابة تجارية، 2) ويجب على الموظفين الفلسطينيين، المدرَّبين من قبل الجيش الإسرائيلي، تحميل البضائع الفلسطينية ورفع تقارير يومية إلى المشرفين العسكريين الإسرائيليين، 3) ويجب أن يكون في كل شاحنة نظام تتبع "جي بي إس" يسمح للعسكريين الإسرائيليين بمراقبة الشحنات أثناء سيرها على الطريق عبر الضفة الغربية.
شاركت في نموذج من الباب إلى الباب حتى شهر أيلول/سبتمبر 2022 21 شركة فلسطينية من الخليل ورام الله ونابلس.3 وبلغ إجمالي الشحنات المرسلة بموجب هذه الطريقة 61,880 شحنة بين آذار/مارس 2018 وأيلول/سبتمبر 2022، مما قلل التكاليف اللوجستية بنحو 8.6 مليون دولار. وكما هي الحال مع نموذج "السلام الاقتصادي"، يضمن هذا الترتيب فصل جزء من كبار المنتجين الفلسطينيين عن سائر المُصدِّرين الفلسطينيين الذين يعانون نتيجة لذلك. بل إن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تتطلب من الفلسطينيين الذين يشاركون في نموذج من الباب إلى الباب أن يتجاوز حجم تجارتهم مع إسرائيل 10 ملايين شيكل سنويًا - وهو مستوى لا يبلغه سوى عددٍ قليل جدًا من الفلسطينيين.
بالإضافة إلى تنامي فجوة الأجور بين الفلسطينيين عبر منطقة جغرافية مجزأة، تتيح سياسة من الباب إلى الباب مزيدًا من التعدي الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية ومراقبة حياتهم اليومية. فبموجبها يستطيع النظام الإسرائيلي أن يتسلَّلَ إلى مواقع الإنتاج الفلسطينية في المنطقة (أ)، حيث توجد المصانع، كلما ارتأى ذلك. تراقب إسرائيل أيضًا مواقع الإنتاج هذه، بالإضافة إلى الطرق اللوجستية "الآمنة" المخصصة للشحنات المرسلة بموجب نموذج من الباب إلى الباب، وبالتالي تُوسِّع كثيرًا نظام مراقبتها القمعي الذي يستهدف الفلسطينيين.
وعلاوةً على ذلك، تكثف قوات الاحتلال الإسرائيلي عمليات التدقيق الأمني كجزء من نظام منح التصاريح، مما يضمن ترويض عدد متزايد من الفلسطينيين سياسيًا لقاء الحفاظ على تصاريح عملهم وسبل عيشهم. تشير هذه السياسات مجتمعةً إلى أن إسرائيل تمارس المكر والتغرير لتضمن الضم الفعلي للمراكز المهمة للإنتاج الاقتصادي الفلسطيني، ولتضمنَ إسكات المعارضة الفلسطينية من خلال الحوافز الاقتصادية.
في أواخر عام 2016، أصدَرَ النظام الإسرائيلي قرارًا يدعو إلى "تعديلات" كبرى فيما يتعلق بحجم العمالة الفلسطينية المسموح بها في أراضي 1948، وكذلك في إجراءات إصدار تصاريح العمل. ومنذ ذلك الحين، أصدرت الحكومة قرارات عدة لتنفيذ هذه "التعديلات". نتيجةً لذلك، ارتفع عدد العمال الفلسطينيين في أراضي 1948 من حوالي 110,000 في عام 2016 إلى 204,000 في 2022. وتنسجم هذه الزيادة مع خطوة غودمان الخامسة نحو "تقليص الصراع": زيادة عدد العمال الفلسطينيين في سوق العمل الإسرائيلية (بحد أقصى يبلغ 400,000 عامل).
الشكل (1): عدد العمال الفلسطينيين الذين انتقلوا إلى أماكن العمل الإسرائيلية في الفترة 1967-2022. المصدر: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.4
أصدرت إسرائيل في آذار/مارس 2022 القرار رقم 1328 الذي يسمح للعمال الفلسطينيين من غزة بدخول أراضي 1948 لأول مرة منذ 2006. وبحلول نهاية العام 2022، حُدِّد العدد الأقصى للعمال الفلسطينيين من غزة المصرَّحين بـ 20,000 عامل. وفي سياق "تقليص الصراع"، تحولت مقاربة النظام الإسرائيلي تجاه غزة من "الهدوء مقابل الهدوء" إلى "الاقتصاد مقابل الهدوء،" بحسب يائير لابيد، وزير الخارجية آنذاك، الذي قالها صراحةًفي أيلول/سبتمبر 2021. والأهم من ذلك هو أن غزة نفسها مستبعدة تمامًا من مقترح غودمان، باستثناء منح الفلسطينيين من غزة فرصًا اقتصادية في أراضي 1948.
ترى السلطات الإسرائيلية بأن زيادة تدفقات الدخل إلى الضفة الغربية وغزة ستُسهم في النمو الاقتصادي الفلسطيني - حيث قُدر في عام 2021 أن إجمالي دخل العمال الفلسطينيين في أراضي 1948 بلغ 5.5 مليار دولار (حوالي 35% من الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني) - غير أنه لا بد من التفريق بين هذا النمو وبين التنمية الاقتصادية، ولا سيما في ظل الاحتلال العسكري المقيِّد والحصار. بل إن زيادة انتقال الأيدي العاملة الفلسطينية إلى السوق الإسرائيلية ترسخ بالأساس الاعتماد الفلسطيني على إسرائيل، وبالتالي الاحتلال الإسرائيلي.
حتى لو دفعَ واضعوا السياسات الإسرائيليون باتجاه اتخاذ تدابير تهدف إلى 'تحسين' حياة الفلسطينيين…فإن واقع الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي والفصل العنصري والاحتلال سيستمر، كما ستستمر المقاومة الفلسطينية له CLICK TO TWEET
وما يزيد الطين بلة هو أن النظام الإسرائيلي لم يعد مهتمًا فقط بالعمالة الفلسطينية متدنية الأجور، حيث عمل في السنوات الأخيرة على تنويع القوى العاملة الفلسطينية في أراضي 1948 لتشمل العاملين في مجالات التكنولوجيا المتقدمة والطب والهندسة. واستثمر نحو 300 مليون شيكل في تدريب العمال الفلسطينيين على مهارات مهنية جديدة. وهكذا فإن زيادة عدد العمال الفلسطينيين وتنويعهم لا يُؤدي إلا إلى زيادة عدد الفلسطينيين المعتمدين اقتصاديًا على النظام الإسرائيلي وإلى استدامة الوضع السياسي الراهن.
يَفترض مفهوم "تقليص الصراع" أن سلسلةً من التحولات - الاقتصادية تحديدًا - في السياسة الإسرائيلية تجاه الضفة الغربية وغزة ستقضي على الظروف التي تحفز "الاشتباكات" بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال الإسرائيلي. ومن خلال التخفيف من حدة معاناة الفلسطينيين اليومية، يصبح الاحتلال العسكري الإسرائيلي أكثر قابلية للإدارة والاستدامة. أي أن مسألة تقرير المصير الفلسطيني من خلال إقامة الدولة تصبح مسألةً لاغية، وهو ما سيعفي القادة الإسرائيليين، على اختلاف انتماءاتهم السياسية، من السؤال الدائم عمَّا يجب فعله حيال السكان الفلسطينيين.
يكشف إطار عمل "تقليص الصراع" أن النظام الإسرائيلي سوف يستمر في العمل لمصلحته الخاصة على حساب الفلسطينيين، بما في ذلك استدامة هياكل الفصل العنصري الاستعماري الاستيطاني التي تشكل أساس معاناتهم المستمرة. بل إن غودمان نفسه يرى بأن "تقليص الصراع" لا يستلزم اتفاقًا رسميًا، أو انسحاب المستوطنين الإسرائيليين أو المستوطنات من الضفة الغربية، أو تقسيم القدس.
وهكذا فإن خطوات غودمان الثمان مبنية على مغالطة مفادها أن الفلسطينيين سيكونون أقل رغبةً في المقاومة إذا اقتنعوا بأنهم قادرون على الاستمتاع بالحياة في ظل الاحتلال الاستعماري الاستيطاني الدائم من خلال تقليل القيود المفروضة على التنقل ومنحهم المزيد من فرص التعاون الاقتصادي مع النظام الإسرائيلي. وهذا افتراضٌ مشوهٌ وعنصري، قائمٌ على التصور الصهيوني القديم والخاطئ بأن الفلسطينيين غوغائيون عنيفون وغير سياسيين - وليسوا شعبًا يطالب بتقرير المصير - يمكن إسكاتهم إذا مُنحوا الامتيازات المزعومة.
لقد تخلخلت بعض جوانب مقاربة "تقليص الصراع" (المحببة لدى اليمين البراغماتي) بفوز حكومة نتنياهو الائتلافية (اليمين المتطرف) في كانون الأول/ديسمبر 2022. فمن ناحية، أدى تزايد القمع الإسرائيلي العنيف تجاه المقاومة الفلسطينية، ولا سيما في شمال الضفة الغربية، إلى تقويض خطة القضاء على الآليات التي تولِّد الاشتباكات. ومن ناحية أخرى، يُستبعدُ أن ينصاعَ تحالفُ نتنياهو المتطرف، الذي يدفع أكثر باتجاه تجريد الفلسطينيين وتشريدهم، لمقترحات بينيت ولبيد المفتَرض بها أن "تقلص الصراع." ومع ذلك، يُرجَّحُ أن تستمرَ الإجراءات الاقتصادية النافذة منذ 2021 في تشكيل العلاقات الاقتصادية الفلسطينية الإسرائيلية في السنوات المقبلة.
وفي حين أن الحكومة الائتلافية الإسرائيلية الجديدة لم تضع سياساتها الاقتصادية تجاه الضفة الغربية وغزة بعد، فإن التزامها السافر بترسيخ الاحتلال سيزيد حتمًا من معاناة الفلسطينيين، الذين لن يقبلوا أبدًا بهذا الواقع، حتى مع زيادة التسهيلات الاقتصادية. وهذا يعني أنه حتى لو دفعَ واضعوا السياسات الإسرائيليون باتجاه اتخاذ تدابير تهدف إلى "تحسين" حياة الفلسطينيين من خلال زيادة المشاركة في سوق العمل الإسرائيلية، أو تيسير التنقل داخل الضفة الغربية، أو تسهيل فرص الوصول إلى العالم الخارجي، فإن واقع الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي والفصل العنصري والاحتلال سيستمر، كما ستستمر المقاومة الفلسطينية له.