رئيس التحرير: طلعت علوي

بعد أعوام من المطاردة .. مساع دولية لتنظيم سوق العملات المشفرة والبداية من المملكة المتحدة

الأحد | 18/10/2020 - 09:42 صباحاً
بعد أعوام من المطاردة .. مساع دولية لتنظيم سوق العملات المشفرة والبداية من المملكة المتحدة


   
هناك تغييرات في رؤية المؤسسات المالية والتنظيمية الحكومية لعالم العملات المشفرة.
هشام محمود من لندن
ابتداء من السادس من كانون الثاني (يناير) من العام المقبل سيمنع بيع أو ترويج منتجات مشتقات العملات المشفرة لمستثمري التجزئة في المملكة المتحدة.
القرار الذي أصدرته هيئة التنظيم المالي البريطانية، يمثل من وجهة نظر البعض ضربة لسوق العملات المشفرة المزدهر في المملكة المتحدة، لكنه وفقا للسلطات الرسمية سيوفر على مستثمري التجزئة خسائر سنوية تقدر بنحو 69 مليون دولار.


وتعد عملية شراء أو بيع مشتقات العملات المشفرة، وسيلة تستخدم في الأغلب كطريقة للتحوط من تراجع قيمة تلك العملات بشكل كبيرة، فمثلا يمكن للمستثمر أن يشترى واحدة من تلك المشتقات المالية، وتتضمن موافقته على بيع عدد معين من وحدات العملات المشفرة بسعر اليوم إذ انخفض سعرها 10 في المائة عن السعر الذي اشترى به، تحسبا لأن تنخفض الأسعار أكثر وتزداد خسائره، ويعني هذا عمليا أن مستثمر التجزئة يشتري بوليصة تأمين إذا تحرك السوق ضده.


قد تبدو إذن تلك المشتقات إيجابية، وتصب في مصلحة صغار المستثمرين، لكن التجربة كشفت أن أغلب مستثمري التجزئة "هواة" لا يمتلكون خبرة أو معرفة دقيقة بالسوق وتحركاتها، ومن ثم ووفقا لتلك المشتقات يقومون بالتخلص مما لديهم من عملات عند انخفاض أسعارها معينة تحسبا وخوفا من مزيد من تراجع الأسعار ومزيد من الخسائر.
وفي الواقع ولأن سوق العملات المشفرة متقلبة للغاية ويصعب تقييمها، فإن الانخفاض ربما يكون مؤقتا ولفترة بسيطة، ومن ثم التسرع في عملية البيع قد تكون محصلته النهائية خسائر مالية كبيرة لهؤلاء المستثمرين "الهواة".


وعلى الرغم من أنه لا توجد بيانات بشأن أعداد أو نسبة المستثمرين الذين يقومون بشراء مشتقات العملات المشفرة في المملكة المتحدة، فإن الإحصاءات الدولية الخاصة بالتجارة العالمية في هذه المنتجات المالية، كانت تقريبا خمس إجمالي سوق العملات المشفرة العام الماضي، وقد نمت سريعا هذا العام كنوع من التحوط من الآثار السلبية لتفشي وباء كورونا، وإذا أخذ في الحسبان أن 1.9 مليون شخص بالغ في المملكة المتحدة أي 4 في المائة من السكان البالغين يمتلكون عملات مشفرة، وأن ثلاثة أرباع الشركات البريطانية تمتلك عملات مشفرة تقل قيمتها عن ألف جنيه استرليني، ما يضعها في خانة مستثمري التجزئة، فإن القرار البريطاني شديد الأهمية لقطاع ملحوظ من المواطنين.


الخبيرة المصرفية دورسي ستيف تشير إلى أن قرار هيئة التنظيم المالي البريطانية لم يمتد للمتداولين المحترفين، أو الشركات المؤسسية مثل صناديق التحوط، التي عادة ما يسمح لها بالتعامل مع منتجات مالية أكثر خطورة وتعقيدا ما يتعامل به صغار المستثمرين.
وتقول لـ"الاقتصادية"، "القرار يهدف إلى حماية الأشخاص الذين ينجذبون إلى العملات المشفرة باعتبارها عملات المستقبل، خاصة بعد أن سمعوا عن صعود وهبوط مثير في قيمة تلك العملات، وإذا نظرنا إلى شبكة الإنترنت فسنجد عددا كبيرا من مواقع التداول التي تشجع الأشخاص عديمي الخبرة، على ضخ ممتلكاتهم ومدخراتهم المالية للاستثمار في عالم العملات المشفرة، مع رسم صورة وردية عن العوائد التي يحققونها مستقبلا، وفي الأغلب ما لا تكون تلك الصورة دقيقة أو متوازنة إذ تتفادى ذكر الخسائر أو التقليل منها".


إلا أن أهمية قرار هيئة التنظيم المالي في المملكة المتحدة لا ينبع من تأثيره المباشر على أسواق العملات المشفرة عالميا، فسوق العملات المشفرة في المملكة المتحدة لا يمثل إلا جزءا ضئيلا من سوق العملات المشفرة دوليا والبالغ 335 مليار دولار، ومن ثم لن يؤثر القرار سلبا في أسعار تلك العملات
لكن خطورة القرار البريطاني تنبع مما يصفه البروفيسور إم. دي. راهول الرئيس السابق لهيئة تنظيم سوق المال البريطاني بمساع دولية متزايدة للسيطرة وتنظيم سوق العملات المشفرة.
ويؤكد لـ"الاقتصادية"، أنه في زحمة الحديث العالمي عن الأوضاع السلبية التي يمر بها الاقتصاد الدولي، لا ينتبه كثير من المحللين إلى جهود البنوك المركزية للدخول في عالم العملات المشفرة تدريجيا لإخضاعه بشكل أو آخر لسيطرة الدولة.


ويضيف، "من هنا تأتي أهمية القرار البريطاني، فهو جزء من مساع دولية، لضبط أسواق تلك العملات، ويعد نموذجا سيحتذى به مستقبلا من قبل عديد من الدول والمنظمين الماليين العالميين الرائدين في هذا المجال مثل إس أي سي في الولايات المتحدة وبافين في ألمانيا وأيضا السلطات الحكومية المنظمة في آسيا، التي تعمل جميعها على تشذيب التقلبات العنيفة التي تحدث في أسعار العملات المشفرة، فعندما يشترى صغار المستثمرين تلك المشتقات، فإن ذلك يتم عبر الاستدانة بمعدلات فائدة مرتفعة، أي أنهم يقترضون لزيادة حجم تجارتهم لتحقيق مكاسب (أو تفادي خسائر محتملة) أكبر، وعندما تبدأ التداولات في بورصات العملات الافتراضية يدخل المضاربون من مستثمري التجزئة ويخرجون من السوق بسرعة كبيرة، ويضاعف هذا من الخسائر والمكاسب فيما يتعلق بالنسب التي اقترضوها، وهذا يؤثر بعنف في الأسواق ويزيد من تقلبات الأسعار.
مع هذا فإن تأثير القرار البريطاني لن يقف عند تلك الحدود، فمجموعة مهمة من الخبراء يشيرون إلى أن تبني عدد آخر من كبار المنظمين الدوليين للاتجاه ذاته، سيعني عمليا تقيد عمل البورصات غير المسجلة مثل بورصة بيتامكس في الولايات المتحدة، وقد يتسبب ذلك في أزمة سيولة نتيجة سحب صغار المستثمرين أموالهم بشكل جماعي.


لكن بغض النظر عن هذا الجانب، فإن الأمر الجدير بالملاحظة والاهتمام، أن منطق هيئة التنظيم المالي البريطانية يكشف تغييرات في رؤية المؤسسات المالية والتنظيمية الحكومية لعالم العملات المشفرة. فبعد أعوام من الإدانات الحكومية المتواصلة لتلك العملات، ومطاردة عنيفة من قبل الجهات التنظيمية لها، بات هناك مؤشرات متزايدة على القبول الحكومي لها، والاستعداد للتعامل معها، ولكن وفقا لرؤية الجهات الحكومية.
أخيرا نشر بنك التسويات الدولية وسبعة بنوك مركزية بما في ذلك الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا تقريرا مشتركا يوضح بعض القواسم الرئيسة للعملات الرقمية التي ستصدرها البنوك المركزية.


ويشير التقرير إلى أن العملات المشفرة الصادرة عن البنوك المركزية يجب أن تكون مكملة للنقود المتداولة ولا تحل محلها، وأن تدعم الاستقرار النقدي والمالي ولا تضرهما، وأن تكون آمنة ورخيصة ومجانية بقدر الإمكان لتوسيع قاعدة استخدامها، إضافة إلى أن يكون لها دور مناسب للقطاع الخاص.
من جهتها، تعتقد، الدكتورة فران تشارلي أستاذة النقود والبنوك في جامعة لندن أنه بحلول منتصف القرن ستكون العملات المشفرة جزءا من النظام النقدي المسيطر عليه من قبل البنوك المركزية، وأن هذا الاتجاه بات مدعوما بصورة أكبر من الحكومات للتغلب على الاستخدام المتزايد للعملات المشفرة في الأنشطة غير المشروعة وتحديدا غسل الأموال.


وتقول لـ"الاقتصادية"، "لا يمكن لنا أن نضع نموذجا موحدا لكيفية تعامل البنوك المركزية مع العملات الموحدة التي ستصدرها، إذا سيختلف الأمر من دولة إلى أخرى بسبب الأولويات والظروف الوطنية، ولكن يمكن لنا أن نضع خطوط عريضة يمكن للجميع أن يقتضي بها".
وفي الواقع فإن علاقة البنوك المركزية بالعملات الرقمية اكتسب قوة العام الماضي بعد أن أعلن موقع التواصل الاجتماعي الشهير فيسبوك أنه سيطلق عملته الخاصة ليبرا التي يدعمها تحالف من الشركات من بينها أوبر وسبوتفي ومايكروسوفت وفيزا، لكن مشروع فيسبوك قوبل برد فعل عنيف من الجهات التشريعية والتنظيمية في الولايات المتحدة ما دفع مايكروسوفت وفيزا إلى الانسحاب من المشروع.


مع هذا يمكن الجزم بأن البنوك المركزية بدأت تدرس الخيارات المتاحة لها للتعامل مع العملات الرقمية، ولا شك أن اتفاق سبعة بنوك مركزية على المبادئ المشتركة وتحديد السمات العريضة والضرورية لنظام العملات الرقمية يمثل خطوة غير مسبوقة في هذا المجال، ويوفر إطارا لكيفية تعاملها المستقبلي مع تلك العملات، والاستعداد للقبول بها جزءا من نظام المدفوعات المالية الدولي.

التعليـــقات