رئيس التحرير: طلعت علوي

التباطؤ .. وصف دقيق لأداء اقتصادات العالم في 2019

الثلاثاء | 31/12/2019 - 10:07 صباحاً
التباطؤ .. وصف دقيق لأداء اقتصادات العالم في 2019


   

هشام محمود من لندن
مع نهاية 2019، يبدو منطقيا تقييم التطورات الاقتصادية والمالية، التي وقعت فيه، لمساعدة صانعي السياسة الاقتصادية والمستثمرين على توقع ما سيحدث العام المقبل.
لكن المشكلة، التي تظهر في عملية التقييم تلك، أن اتفاق الخبراء على ظواهر عامة اتسم بها التطور الاقتصادي لعام 2019، لا ينفي وجود اختلاف بينهم بشأن عديد من الجوانب التفصيلية، بل وأسباب عديد من الظواهر، التي برزت خلال العام.


ربما تكون نقطة الاتفاق الأساسية بين الخبراء بشأن الملمح الاقتصادي الرئيسي لعام 2019، أن طول أمد التوترات التجارية أدى إلى تفاقم التباطؤ الدوري للاقتصاد العالمي، فتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين بعد فرض واشنطن رسوما جمركية إضافية على الواردات الصينية، واندفاع بكين إلى الرد الانتقامي عبر فرض تعرفة إضافية على 75 مليار دولار من الواردات من الولايات المتحدة، أسفر هذا عن تحركات حادة في أسواق الأسهم العالمية، وانخفاض في أسعار النفط، وزيادة تدفقات رأس المال الخارجة من الاقتصاديات الناشئة.


وصنعت أجواء النزاع التجاري بين أكبر اقتصادين في العالم الولايات المتحدة والصين، مناخا عزز من تفاقم الحروب التجارية في عديد من الاقتصادات الأخرى، ليصبح الجميع أمام ظاهرة من الحروب أو التوترات التجارية الآخذة في التفاقم، بما يحمله ذلك في طياته من تباطؤ في الإنتاج الصناعي، وتراجع التجارة العالمية بشكل ملحوظ، وليقف الكل أمام مشهد اقتصاديا يتسم بالتعقيد وفقدان اليقين والتشاؤم النسبي، سواء في الاقتصادات المتقدمة أو الناشئة أو النامية على حد سواء.
ويقول لـ"الاقتصادية" الدكتورة لوسي باكويل، أستاذة التجارة الدولية في جامعة بروملي "المخاطر المحيطة بالتجارة الدولية في تنام بشكل غير مسبوق، نتيجة النزاع التجاري بين واشنطن وبكين، والأكثر خطورة غياب أي حل حقيقي لهذا النزاع في الأفق المنظور، وقد انعكس ذلك على معدلات نمو التجارة الدولية، وتقديرات منظمة التجارية العالمية تشير إلى توقع ارتفاع معدل التجارة الدولية بين 1 و1.2 في المائة فقط هذا العام، وذلك المعدل أبطأ مما كان متوقعا بداية العام، حيث أشارت التوقعات حينها إلى معدل 2.6 في المائة".
وتضيف "الأمر لم يتوقف عند تراجع تلك المعدلات مقارنة بالعام الماضي، وإنما يلاحظ أن معدل النمو التجاري لعام 2019 أقل من متوسط معدل النمو خلال الفترة من 2012 إلى 2017، وهذا حتما سيؤثر في نمو الاستثمارات في هذا العام".


ربما يكون "التباطؤ" هو الكلمة المحورية لوصف أداء الاقتصاد العالمي في 2019. فنمو الناتج المحلي الإجمالي تباطأ في معظم الاقتصادات الرئيسة، وقادت الولايات المتحدة هذا الاتجاه، خاصة مع انخفاض الحوافز المالية، وافتقاد الإصلاحات الضريبية الزخم، الذي اتسمت به سابقا.
لا شك أن الاقتصاد الأمريكي يحتل مكانة خاصة عند تقييم أداء الاقتصاد العالمي في عامنا هذا، وقد حافظ اقتصاد الولايات المتحدة مدعوما بالإنفاق الاستهلاكي القوي وسوق العمل القوي، على وتيرة نمو معتدلة مع نهاية 2019، وإذا كانت المخاوف بشأن ركود فوري قد تلاشت تقريبا، فإن الاقتصاد الأمريكي ككل يظهر علامات على التباطؤ، خاصة مع انخفاض الاستثمار التجاري وتقلص قطاع الصناعات التحويلية.
وتشير آخر الأرقام المتاحة إلى أن النمو الاقتصادي الأمريكي حقق في الربع الثالث من 2019 معدل نمو بـ2.1 في المائة، وهو ما يمثل ارتفاعا طفيفا عن 2 في المائة تحقق في الربع الثاني، لكنه يمثل تباطؤا حادا من 3.1 في المائة في الربع الأول، وهو ما يدفع بكثير من الاقتصاديين إلى توقع بلوغ معدل النمو الإجمالي للاقتصاد الأمريكي ما يراوح بين 2 و2.3 في المائة هذا العام.
ورسم جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الصورة المختلطة للاقتصاد الأمريكي بالقول "لقد كان إنفاق الأسر قويا، مدعوما بسوق عمل صحي، وارتفاع الدخول، وثقة قوية من المستهلكين، على النقيض من ذلك يظل الاستثمار والصادرات التجارية ضعيفا، كما انخفض إنتاج الصناعات التحويلية طوال العام".
وربما يفسر هذا الوضع التخفيضات الملحوظة لأسعار الفائدة الأمريكية، خاصة مع تزايد عدم اليقين الاقتصادي الناجم عن التوترات التجارية، وضعف النمو العالمي، والضغوط التضخمية، إلا أن تفادي الاقتصاد الأمريكي الوقوع في وضع اقتصادي عسير هذا العام، ولا ينفي أن أغلب التوقعات تدور في إطار حدوث مزيد من التباطؤ الاقتصادي العام المقبل على خلفية عدم اليقين المستمر في السياسة التجارية وسوق العمل.


الاقتصاد الصيني سيواصل أيضا النمو، ولكنه نموا أبطأ من الأعوام السابقة، على ذات المسار يسير الاقتصاد الأوروبي، متأثرا بالمخاوف المتعلقة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والضعف الملحوظ في الاقتصاد الإيطالي، وعلى غرار الاقتصادات المتقدمة أصاب الداء الاقتصادات الناشئة خلال العالم الجاري.
على الرغم من أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لهذا العام لم يعلن بشكل نهائي بعد، إلا أن أفضل التوقعات تشير إلى أنه لن يتجاوز 3 في المائة إن لم يكن أقل من ذلك في أحسن الظروف، ما يعد أبطأ وتيرة للنمو منذ الأزمة المالية العالمية.


واتسم هذا الانخفاض في معدلات النمو بمجموعة من السمات أبرزها هبوط حاد في الصناعات التحويلية، وربما يظهر ذلك في الأوضاع التي تمر بها صناعة السيارات في الوقت الحالي وما تشهده من تراجع نتيجة المعايير الجديدة المطبقة عليها في كل من منطقة اليورو والصين.
لكن الحصاد الاقتصادي لعام 2019 يكشف أيضا أن التحديات أمام التوسع الاقتصادي لم يكن من الممكن حصرها في عامل واحد. فإذا كانت التوترات التجارية قد أسهمت إلى حد كبير في تشكيل حصاد العام، فإن حالة عدم اليقين المتصاعدة، ومحدودية الابتكارات التقنية، والشيخوخة السكانية، تسببت بشكل كبير في إضعاف معدلات النمو.
ويقول لـ"الاقتصادية" المصرفي مارك هندرسون رئيس قسم التعاون الدولي في مجموعة نت ويست المصرفية، "لتخفيف الرياح المعاكسة، التي أدت لتباطؤ الاقتصاد الدولي، أعلن عديد من البنوك المركزية، وفي مقدمتها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والبنك المركزي الأوروبي تخفيض الفائدة في محاولة لتحفيز الاقتصادات الوطنية، على أمل إنعاش الاقتصاد الدولي في مرحلة لاحقة، بل إن بعضهم اندفع في اتجاه تدابير نقدية غير تقليدية مثل أسعار الفائدة السلبية".
ويضيف "ربما نجحت تلك السياسات النقدية الميسرة، سواء في الاقتصادات المتقدمة أو الناشئة في تجنب حدوث ركود اقتصادي خطير في المدى القصير، ولكنها كشفت عن تحديات أخرى لا تقل خطورة مثل ارتفاع الديون، وفقاعات الأصول المتضخمة، وزيادة ضعف النظام المالي، وانخفاض عائدات الأسواق، وتسبب ذلك في زيادة حجم السندات ذات العائدات السلبية إلى نحو 15 تريليون دولار".


بالطبع كشفت تلك التطورات عن أن مواطن الضعف في قطاع الشركات بات مرتفعا للغاية في عدد من الاقتصادات المهمة، وعزز خطر ارتفاع قيمة دين الشركات المعرضة للخطر إلى 19 تريليون دولار أي قرابة 40 في المائة من إجمالي دين الشركات في الاقتصادات المتطورة من مخاوف المستثمرين حول المستقبل. وتواكبت ظاهرة تنامي ديون الشركات مع اتجاه المستثمرين ونتيجة للتحفيز المصرفي المستمر عبر أسعار الفائدة شديدة الانخفاض إلى البحث عن عوائد عبر اقتناء أصول أكثر خطورة، وأقل سيولة، ما زاد الضعف بداخل المؤسسات المالية غير البنكية، التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة.


لكن هذا لا ينفي أن 2019 وعلى الرغم ما به من مصاعب وتوترات تجارية وعدم يقين اقتصادي، كشف عن تحسن في صلابة القطاع المصرفي نتيجة القواعد التنظيمية، التي استحدثت في أعقاب الأزمة المالية العالمية، وعلى الرغم من وجود ثغرات هنا وهناك، وهبوط رأس مال بعض البنوك إلى مستويات متدنية، فإن النظام المصرفي الدولي - بصفة عامة - أثبت قدرته على مواجهة التحديات، لكن البنوك غير الأمريكية لا تزال تعاني هشاشة التمويل الدولاري، وهو ما عزز حالة الضعف في بعض الاقتصادات، وسط مخاوف من أن تؤدي تلك الهشاشة إلى إيجاد حالة مشابهة من الضعف المصرفي في البنوك الأمريكية، ما يعرض النظام المصرفي الدولي إلى هزة في العام المقبل.


وحول أبرز ملامح الاقتصادات الناشئة والنامية في 2019 تعلق الباحثة الاقتصادية أملي وايت قائلة "ظروف تلك الاقتصادات اتسمت بالتنوع فبعضها كالاقتصاد التركي والإيراني عانى ظروفا صعبة للغاية بسبب الصراعات السياسية الداخلية أو الصراعات العابرة للحدود، بعضها الآخر عاني مشكلات تقلص التمويل الخارجي، وقد اتسمت السياسة المالية للنظم المصرفية في معظم تلك البلدان خلال 2019 بمحاولة إيجاد مجال من الحركة الاقتصادية لتفادي الانكماش، سواء عبر تبني برامج إصلاحية جذرية، أو ترشيد الإنفاق وخفض الدعم وتوسيع قاعدة الإيرادات لتعزيز النمو، وزيادة الإنفاق العام لتفادي أي اضطرابات اجتماعية".


وتتفق وجهة النظر تلك مع تقييمات بعض الخبراء الاقتصاديين بأن 2019 كشف عن تمتع الأسواق الناشئة بشكل عام بالقدرة على مواصلة التحفيز الاقتصادي عبر خفض أسعار الفائدة أكثر من الاقتصادات المتقدمة، إلا أن تأثيرها سيظهر العام المقبل، فالنمو الاقتصادي في الأسواق الصاعدة وعلى الرغم من أنه اتسم بما يمكن وصفه بحالة من البرود هذا العام، إلا أن النشاط الاقتصادي لتلك الأسواق أكثر استدامة وأقل تقلبا، ما يوجد مزيجا صحيا من فرص الاستثمار، التي يمكن تعديلها، وفقا لحسابات المخاطر.
ووسط تلك التقييمات لمسار الاقتصاد العالمي في 2019، يظل الحديث عن الاستثمارات الأجنبية المباشرة ووضعها خلال العام جزءا مهما لفهم المشهد الكلي للاقتصاد الدولي، فخلال النصف الأول من العام تراجعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة عالميا 23 في المائة، حيث انخفض في الربع الأول من العام بنحو 5 في المائة.


ومع تفاقم الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة تراجعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنحو 42 في المائة لتنخفض بما يقارب 572 مليار دولار أمريكي.
وتضررت بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بشكل ملحوظ، إذ انخفضت التدفقات المالية الأجنبية المقبلة إلى بلدان المجموعة 43 في المائة، ويعزى ذلك إلى حد كبير إلى انخفاض التدفقات إلى هولندا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
وفي الواقع، فإن أبرز جوانب الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين وضوحا، تجسدت في مجال الاستثمارات الأجنبية المباشرة، حيث انخفضت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الولايات المتحدة من الصين من ذروتها، التي بلغتها في النصف الثاني من 2016، التي قدرت حينها بـ16 مليار دولار إلى أقل من 1.2 مليار دولار هذا العام، خاصة مع قيام عديد من الشركات الصينية بالتخلص من استثماراتها في الولايات المتحدة.


مع هذا يلاحظ أن اليابان والولايات المتحدة وألمانيا كان أكبر مصادر الاستثمار الأجنبي المباشر في جميع أنحاء العالم خلال هذا العام، وإذا كانت التدفقات المالية للولايات المتحدة اتسمت بالسلبية في الربع الأول من 2019، لكنه ومع نهاية العام، استعادت واشنطن مكانتها كمصدر رئيس للاستثمار الأجنبي المباشر في جميع أنحاء العالم.
وبلغ معدل البطالة العالمي هذا العام، ووفقا لإحصاءات البنك الدولي 4.936 في المائة، ويعتقد عديد من الخبراء أن أسواق العمل واجهت في 2019 مجموعة من التحديات تشير إلى أن سوق العمل العالمية باتت تحت ضغط مجموعة من العوامل المركبة، تتضمن التقدم التكنولوجي وزيادة التكامل الاقتصادي على طول سلاسل التوريد العالمية.
ويعتقد عدد من الخبراء أن 2019 ترسخت فيه ظاهرة قد بدأت تتشكل منذ أعوام في هيكل الاقتصاد الدولي، وهي ظاهرة التغييرات المتكررة في الوظائف في ظل تنامي خطر تراجع المهارات الوظيفية نتيجة إدخال الذكاء الصناعي والروبوتات بقوة في مجال الإنتاج.


الجروح التي أصابت سوق العمل الدولية نتيجة الأزمة المالية العالمية، والتي اعتقد بعضهم بأنها التأمت لم تلتئم، وإن عدم اليقين الاقتصادي ما زال ينعكس بقوة على معدلات التوظيف، لكن الجزء الأكبر من التحسن في سوق العمل خاصة في البلدان المتقدمة، يحركه مزيد من عمليات التوظيف للنساء، وقد تواكب ذلك بتحسن في نوعية الوظائف المتاحة، وهو ما يظهر من نمو حصة الوظائف عالية المهارة بنحو 25 في المائة.
خلاصة القول، فإن 2019 لم يكن عاما مبهرا اقتصاديا، لكن لا يمكن إضفاء كثير من السوداوية الاقتصادية عليه، فجزء كبير من الأداء الاقتصادي السيئ يعود إلى عوامل لا تتصل بتطورات الوضع الاقتصادي خلال العام ذاته، بقدر كونها نتيجة تراكمات من أعوام سابقة، أو جراء تغييرات هيكلية في الاقتصاد الدولي.


بالطبع لا يعفي هذا المؤسسات المسؤولة عن صياغة السياسة الاقتصادية الدولية من مسؤوليتها في عدم النهوض بالاقتصاد العالمي بالدرجة الكافية، وربما يعود ذلك في جزء منه إلى تنامي السياسات الحمائية خلال هذا العام بشكل مفرط، بحيث تآكلت الحريات الاقتصادية، خاصة في مجال التجارة الدولية، وغاب تنسيق السياسات على المستوى العالمي.
ولتفادي تفاقم الوضع في العام المقبل، فإن الضرورة الملحة لاتباع سياسات تحد من التشوهات الاقتصادية وتشجع المرونة والانفتاح على الأسواق في تزايد، دون غض الطرف عن تعزيز شبكة الأمان الاجتماعي.


ولا شك أن تعزيز صلابة تلك التوجهات سيكون الاختبار الحقيقي للاقتصاد العالمي في 2020، والذي ستحتل فيه قضية معالجة مواطن الضعف، التي أعاقت نمو الاقتصاد الدولي جدول الأعمال، على أمل النهوض بالاقتصاد العالمي وتفادي الدخول في أجواء اقتصادية قاتمة، تفقد المستثمرين ثقتهم بأن الاقتصاد الدولي تجاوز أزمة 2008، وأنه قادر بالفعل وبفضل ما يشهده من تغيرات جذرية في هيكله على التمتع بإمكانية التحليق عاليا، إذا أحسن اتخاذ خطوات وقرارات تتمتع بقبول جماعي يخفض التوترات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

 

aleqt.com

التعليـــقات