رئيس التحرير: طلعت علوي

الفلسطيني الجديد: تشظي الصورة

السبت | 04/06/2005 - 09:19 صباحاً
الفلسطيني الجديد: تشظي الصورة

الفلسطيني الجديد: تشظي الصورة


بقلم: فراس جابر


الواقع العربي الآن يبدو مثقلاً بحمولة زائدة من ثنائية النهوض/ الخضوع، بحيث أنه لا يفسح المجال لنقاش معمق لصورة الفلسطيني كانعكاس لصورة قضيته الوطنية التي تخضع لتجاذبات فلسطينية، عربية، ودولية، وإن كانت تميل الآن لإعادة موضعة ذاتها كظاهرة محلية يجب التعامل معها بهذا الحجم والوزن والتأثير ارتكاساً عن لا محدوديتها السابقة.
صورة الفلسطيني تنكسر موّلدةً تشظيات متعددة نتيجة خضوعها لعاملين مهمين؛ الأول ثنائية النهوض/ الخضوع التي تحدد الآن الشكل المستقبلي للعالم العربي، إن كان سينطلق في نهضته المتأخرة أم يكتفي فقط باستبدال رموز الحكم، وبالضرورة مرجعياتهم الفكرية.
العامل الثاني تشظي الحالة الوطنية الفلسطينية عقبَ تسليم منظمة التحرير الفلسطينية بانتهاء دور العنف الثوري، واستبداله بآليات العمل التفاوضي وبناء مؤسسات إدارية ومنظومة حكم تتعارض ضمناً مع رمزية "العنف" الذي يفترض أن ينتفض دائماً ويثور، لا أن يصبح مطواعاً لمنظومة ورؤية الاستقرار في ظل الاستعمار. كما جاء بروز تيار الأخوان المسلمين ممثلاً بحركة حماس كمقدمة لبروز التيار الأكبر في الدول العربية، وتحديداً بعد تجربة حكم 2006 المشبعة بالتناقضات. هذا لا يعني تجاهل عامل الاحتلال والدعم الدولي المتوفر له في سبيل ضمان تفوقه العسكري والاقتصادي والإستراتيجي، ولكنه عامل "ثابت" في إطار منظومة الصراع، أما تحييده فهو الطارئ.
لذا يتم إعادة تشكيل صورة الفلسطيني من رمز وطني ثوري يرتدي الكوفية ويمتشق السلاح في سبيل التحرير، ثائراً هادراً، لاجئاً يحمل تراب أرضه ومفتاح بيته أينما حل وارتحل، إلى أخر "جديد"، يستند إلى رؤى ومرجعيات مختلفة ومتضاربة أحياناً.
الفلسطيني الجديد، هو ذلك الذي يحظى بشبه كيان وطني رسمي منقوص السيادة، كما أنه هو الموظف الذي ينتظر راتبه في بداية أو نهاية كل شهر كانعكاس متضخم للانهماك الذاتي وفي شؤون الحياة على حساب المرجعية الوطنية، هو كذلك الملتحي والمرتدي للرايات الخضراء، والذي يحوز على نفس المرجعية الثقافية لأقرانه ورفاقه في عدة دول عربية، هو كذلك اللاجئ الذي تحول إلى المهجر قسراً في عدة دول عربية نتيجة الصراعات الطاحنة، هو رجل الأمن "الجديد" الذي يتدرب على أحدث طرق تفريق المظاهرات وقمعها في معسكرات داخلية وخارجية، والذي يجند وفق مواصفات ومعايير صارمة تشمل حتى الطول.
هل يعني هذا أن صورة الفلسطيني كانت دائماً واحدة متشابهة؟! طبعاً لا، ولكنها لم تكن على هذا القدر من تنوع الصور المغايرة.
الفلسطيني الجديد يتاح له الدخول لشبكات وعلاقات عابرة للوطن، بحيث يمكنه صياغة أجندات ورؤى قطاعية (شبابية، نسوية، ديمقراطية...الخ) ولكن بمعظمها "محايدة" إلى حد المبالغة، ويستطيع الفلسطيني نقل الخبر/ الحدث كفاعل أو ناقل، دون الاهتمام بالضرورة بالحيز الوطني في تفاعله الوطني أو أجندته بعد "أعيدت" صياغة البرنامج الوطني ليصبح أقل "اشتباكاً".
قد يجادل البعض أن هذا التحليل فيه من المسلمات ما فيه، لأنه من "الطبيعي" وجود هويات فكرية فرعية وأجندات متعددة داخل الهوية الجمعية!! غير أن سقطة/ إسقاط تمثيل الفلسطيني الثائر لم ينجح باستنهاض صورة جديدة معبرة عن واقعه وتحدياته، بقدر ما عنى التشظي في صور فرعية لا تمتلك واحدة منها القدرة على فرض ذاتها أنموذجاً فلسطينياً.
غياب/تشظي الصورة يؤسس لتراجع الأصل المعبر والمُشكّل، وهو القضية الفلسطينية كحالة تحرر وطني مغرقة بعمق قومي/ عالمي ترمز من جملة ما ترمز إليه إلى النضال من أجل التخلص من الاستعمار والاستعباد وصولاً للحظة الحرية والتحرر والانعتاق، مُشكلة بؤرة جذب دائمة للنهوض العربي.
العامل والوضع العربي الذي يبدو الآن محملاً بانفجارات، مستبطنة منذ عقود، في تضاد عنيف من أجل صياغة شكل المجتمع/ الدولة، بما يتضمن أحياناً التفكيك والتحلل لهذا المجتمع، والنزوع إلى هويات فرعية، وصياغات لأجندات سياسية وفكرية لن تقود بالضرورة إلى النهضة والتنمية المنشودة. هل يحق لنا في خضمّ كل هذا أن نسأل أين تقبع القضية الفلسطينية ضمن الواقع العربي الآن؟ أم يجب علينا أن ننتظر بضعة عقود أخرى؟ وهل يتعارض السعي للتخلص من الأنظمة العربية مع دعم القضية الفلسطينية؟
الواقع العربي دفع بدوره القضية الفلسطينية إلى مزيد من التراجع على مستوى الشعار والتضامن، والعمل، وساهم في إضافة عدد من الجزئيات إلى هذا الفلسطيني الجديد، منها الفلسطيني المنغمس في قضية عربية أكثر من قضيته، لا على مستوى دعم المجتمع العربي كله، بل دعم إحدى تفرعاته في تناقضاتها وصراعها أمام مكونات أخرى، فهذه الجزئيات لا تعمل وفق منظمة دينامية من التفاعل والتضامن مع الواقع/ القضية بما يعمق من أسس النضال، بل على العكس فهي تعمل على تشكيل نوع من الغربة، عبر دعم قضايا عربية فرعية لا تشكل أولوية بالضرورة. كما تعمل على دفع هذا الفلسطيني وصورته وصوته إلى مزيد من التهميش والتخفي والانزواء بحيث يصبح في الصفوف الخلفية ضمن لوحة كبيرة ملطخة بكل المكونات. لا يقطع هذا التحليل مع أن صورة الفلسطيني لا يجب أن تتضمن بعداً عربياً، بل والتزاماً عضوياً بقضايا الوطن العربي، فالصورة لا تستقيم إلا بهذا العمق.
تمزق صورة الفلسطيني "القديم" لتحل مكانها صورة الفلسطيني "الجديد" تتضمن أن تتمزق صورة العربي "القديم" لتحل مكانها صورة متشظية لعربي "جديد" ملامحها ليست محددةً بعد، وأمام هذه الصورة وما تحمله من مرجعيات يقف الفلسطيني عاجزاً عن تصور صورته كانعكاس لقضيته وعمقها العربي.
لكن التاريخ علمنا أن الأحداث لا تتجه منحىً خطياً أو مساراً مستقيماً، بل يمكن لأي فعل إنساني وتحرري أن يطيح بالمسارات، وأن يستجلب مساراً يسعى للنهوض والتحرر.

التعليـــقات