رئيس التحرير: طلعت علوي

عدم المساواة تقلق الغرب .. لماذا؟

السبت | 31/10/2020 - 12:54 مساءاً
عدم المساواة تقلق الغرب .. لماذا؟


ليون برخو


قد لا نغالي إن قلنا: إن مسألة عدم المساواة صارت تقلق الغرب اليوم بقدر القلق والخوف الذي ينتابه في صراعه المرير مع الجائحة وفيروسها المخيف القاتل. وأصبح الحديث عن المساواة أو عدمها على كل لسان تقريبا وعلى كل المستويات، من الروضة، إلى الجامعة، ومن حافلة النقل العام إلى المصانع الكبيرة، ومن مكتب أو مطعم صغير إلى الإدارات العليا مثل الوزارات والحكومات.


وتعج صفحات الجرائد والمواقع الإعلامية الرقمية بالحديث عن تفاقم مشكلة عدم المساواة في الدول الغربية، معبرة عن خشية وخوف من استفحال الوضع الذي يرى فيه البعض أو أحيانا الأكثرية أنها أدنى شأنا ومكانة ودورا في حياة المجتمع من غيرها. وهنا أنا لست في وارد انتقاد خطاب عدم المساواة الذي صار في كل مكان.


فعلى عكس الاعتقاد الشائع في بعض الأروقة التي تراقب الغرب، فإن إثارة قضية عدم المساواة كي تصبح مسألة رأي عام، دليل على نضج المجتمعات الغربية وحسها السليم، وإدراكها أن التحضر والتمدن وطريقة الحياة الغربية من حيث المبدأ والنظرية يتعارضان مع الممارسة على أرض الواقع.
وهناك شقان رئيسان لكل فكر أو فلسفة. الشق الأول نظري والآخر تطبيقي. فصل الفكر في مستواه النظري عن الإجراءات الدستورية والتنفيذية والقضائية في ترجمته على أرض الواقع، يبقى حبرا على ورق.
وآتي بمثال من الواقع العربي والإسلامي لتقريب الفرضية هذه، حيث نسمع كثيرا عند وقوع أحداث مؤلمة فيها انتهاك صارخ لحقوق الإنسان ما مفاده: "هذا ليس من الإسلام في شيء".


هنا، نطبق تفسيرنا وتعبيرنا عن الشق النظري للإسلام كدين وفكر متسامح على واقع يرفض التسامح ويلجأ إلى العنف مستندا، من وجهة نظره، إلى الفكر ذاته.
ويختلف الحال في الغرب جوهريا عن الوضع في المجتمعات العربية والإسلامية لأسباب عديدة، ومن الأهمية بمكان الوقوف عندها، بيد أنها ليست بيت القصيد في هذا المقال، لأن عدم المساواة، رغم خطورتها وتفشيها في هذه المجتمعات، لم ترتق حتى الآن إلى مرتبة رأي عام.
وقد ننجر إلى الغلو في طريقة تعاملنا مع الفكر الإنساني: الغلو في النظرة إلى النص، وذلك بجره ومده ومطه كي يوائم وجهات نظرنا، والغلو في الممارسة والتطبيق إلى درجة نفقد فيها روحية وجوهر ما يدعو إليه الفكر.


ما يحدث في الغرب ينحو صوب الغلو في الممارسة، ونستدل على ذلك في توزيع الثروة مثلا. الفكر الإنساني الغربي يرفض الاستغلال والاحتكار، لكن ما نلاحظه هو زيادة كبيرة في الفجوة بين الذين يملكون والذين لا يملكون. ونتصور أحيانا أن الأزمات الكبيرة - وباء كورونا نموذجا - تحتم على الإنسان مراجعة ذاته والتعمق في إنسانيته كي يتخلص من أردان الممارسات والتشريعات التي تسبب عدم المساواة.
في الحقيقة، إن ما يحدث في الأوقات العصيبة في الأغلب يعاكس إنسانيتنا، حيث نزداد غلوا في الممارسات والتطبيقات التي تزيد من الفروق بيننا كبشر. وشاء الغرب أم أبى فإنه يعيش في خضم أزمة شديدة، كانت بوادرها بادية للعيان منذ الأزمة المالية عام 2008، التي عصفت بمؤسساته المالية وكادت تطرحه أرضا.


وما زاد من وطء هذه الأزمة بلة تفشي وباء كورونا الذي فجأة رأى فيه الغرب نفسه أن ظهره غير محمي، وأن كل ما يملكه من قوة وبطش وسلطة عسكرية أم اقتصادية ليس في وسعها إنقاذه من الضربات المتتالية للجائحة. وزادت مخاوف الغرب من المستقبل بعد مشاهدته كيف أن الصين صمدت وقهرت حتى هذه اللحظة، الوباء، وكيف أن اقتصادها خرج بسرعة من انكماشه وأخذ في النمو، بينما أغلب الاقتصادات الغربية ما زالت تمر بفترة معاناة شديدة.


هناك قصص كثيرة تظهر صبيانية القيادات الغربية في تعاملها مع أزمة عام 2008 والأزمة التي أعقبت تفشي وباء كورونا. وعندما تشتد الأزمات نأخذ في لوم الآخر بدلا من لوم وتغيير أنفسنا ومعها ممارساتنا كي نجعلها أقرب ما تكون إلى المساواة التي تدعو إليها نصوصنا ونظرياتنا. فلا غرو، أن نشاهد اليوم الانقسام الكبير في الغرب بين مثلا أصحاب البشرات المختلفة أو الدين المختلف أو بين ما يطلقون عليه المواطن والأجنبي أو الغريب. حاولت دول أوروبا الغربية، خصوصا الواقعة في شمال أوروبا تطبيق العدالة والمساواة، وأفلحت إلى حد كبير. لكن يجب ألا ننسى أن المساواة هذه كان من المحال تطبيقها لولا الرخاء والثراء الذي كدسته، منه ما أتى من الفترة الاستعمارية ومنه ما حصلت عليه من خلال تملكها زمام العلم والصناعة والتكنولوجيا.


وهذا معناه أن المساواة لم تكن متأصلة وليست نابعة من فكر أو دستور أو نص، لأن حال زوال الرخاء والثراء، ستندثر لا محالة. وهذا سبب من أهم الأسباب لما نشاهده من تأزم واستقطاب وصراع داخلي، صار جليا في بعض الدول الغربية، وسيزداد وطأة وهي تفقد بعض العناصر التي مكنتها من تكديس الثروة.

التعليـــقات