ضمن العلاقات الاقتصادية والاجتماعية السائدة في هذا القرن، نجد ان العبودية، كظاهرة لا تزال تحافظ على وجودها، بأشكال وانماط متعددة، بإتاحة امكانية امتلاك انسان ما، امتلاك انساناً اّخر، ملكية مباشرة، عبر امتلاك جهده ونتائج عمله، وخاصة ان تم ذلك رغماً عن ارادته، وهذا بجوهره يعتبر شكلاً من اشكال العبودية، من وجهة نظر العلاقات الاقتصادية والاجتماعية.
الظاهرة الجديدة من العبودية الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة لها نمطان، نمط العبودية المأجورة، ونمط العبودية الائتمانية اي عبودية الدّين.
العبودية القديمة " الرق "، كانت قائمة على اساس العنف والاجبار القسري، اما العبودية المعاصرة او العبودية الجديدة، تقوم على اساس ضغط الحاجة والخداع والاحتيال، المقنن، بوسائل وتقنية حديثة.
تحت إشراف المنظومة المالية العالمية الراهنة، التي تحرص كل الحرص على ابقاء البشر في جهالة كاملة عن سير وأنماط وأساليب عملها او تأثيرها على مجرى جوانب الحياة للانسان من أجل الهيمنة على العالم.
واذا كانت الراسمالية القديمة ربوية في الاصل والغالب، فإن الراسمالية المعاصرة، مرت بعدة مراحل من التطور حتى وصلت في اوائل القرن العشرين بعد تقهقرها من راسمالية صناعية الى راسمالية ربوية، كما كان سابقاً، مما نتج عن ذلك، مضاعفة الدور الذي تلعبه الديون لخلق النمط الجديد من العبودية وهو عبودية الديون، كأبرز تجسيد للعبودية المعاصرة.
الا ان الشكل الارقى للعبودية المعاصرة، في ظل راسمالية القرن الحادي والعشرين، هو عبودية المال او العبودية الاستهلاكية والعبودية المأجورة. والاكثر وضوحاً، عبودية المال، التي هي شكل من أشكال استعباد الانسان روحياً.
نظرة الى جوهرة الراسمالية المعاصرة، نجد انها منظومة عالمية متكاملة تتألف من نمطين:
النمط الاول: رأسمالية الغرب، وهو المتنفذ، والقادر بقوة تطوره وتقدمه الاقتصادي والتقني، ان يتحكم في مجرى امور الحياة المعاصرة لشعوب الارض.
النمط الثاني: الرأسمالية الهامشية، او رأسمالية الهوامش في بقية البلدان الاخرى في العالم.
والعلاقة بينهما قائمة على قاعدة وأسس علاقة المستغِل والمستغَل، حيث الغرب يقوم بدور السيد مالك العبيد، والبلدان الاخرى تلعب دور العبيد، في المنظومة العالمية المعاصرة.
كما اشير سابقاً، ان العبودية التقليدية، كانت تقوم على الاجبار القسري بواسطة احتلال الشعوب بالقوة، بينما العبودية المعاصرة، تقوم اساساً على اساليب الخداع والاحتيال لابقاء الناس في ظلام وجهالة وعدم معرفة ما تمارسه المنظومة المالية العالمية، من خلال الحفاظ على نظم التعليم والتوعية في العالم، التي تفتقر الى التوعية الاقتصادية والمالية، وإبعاد مؤسسات التعليم والتوعية، عن الخوض في مجال عمل المنظومة المالية العالمية، ولذلك نجد ان تلك المؤسسات ابعد ما تكون في شرحها عن كيف تعمل البنوك وممَ تتألف القروض وكيف تحتسب فوائد القروض والضمانات المالية والعقارية، وكأن تلك المؤسسات قد بنيت عمداً على هذا النحو.
وأيضاً ومن خلال ممارسة اساليب التضليل والتحايل والخداع التي تمارسها وسائل الاعلام، لما تملكه من أضواء براقة وألوان جذابة، مما جعلها ذات تأثير كبير على توجيه رغبات الناس الى حيث هي تريد.
والمراقب لوسائل الاعلام، يستطيع اكتشاف سعيها لتسخيف اي تحليل عملي وموضوعي، لعمل المنظومة المالية العالمية، وسرعان ما تطلق على مثل هذا التحليل، انه يقع في نطاق التأّمر والعبث باستقرار وسلم العالم.
فوسائل الإعلام والترويج والتسويق، تلعب دوراً في غاية الخطورة، من خلال اللعب على نفسيات ورغبات الافراد لتوجيهها نحو استهلاك السلع والبضائع والخدمات والمنتوجات التي تسوق لها، بينما لا تتعرض اطلاقاً الى مستويات الارباح التي يجنيها منتجو تلك السلع والبضائع والخدمات، والتي تعتبر تلك المستويات من الارباح نهباً جشعاً منظماً ومشروعاً لامكانيات الافراد والشعوب.
فعلى سبيل المثال، تنامت ارباح الشركات الكبرى من 210% في عام 1940 الى 308% في عام 1969 الى 510% في عام 1973، وحالياً وصلت الى عشرات الاضعاف من قيمة تكلفة المنتج.
مثلاً منتج شركة " نايك " للأحذية الرياضية، المصنع في فيتنام او في تايلاند او في بلد اخر من بلدان اقتصاديات الهوامش، تبلغ تكلفة انتاجه من 5 – 10 دولار امريكي بينما سعره في الاسواق يتراوح ما بين 100 – 200 دولار، اي ان المشتري يدفع عشرة اضعاف قيمة التكلفة، دون وجه حق، وهذا السعر لايمكن اعتباره كسباً مشروعاً بل نهباً للأفراد والشعوب، في الوقت الذي فيه المشتري لايعلم ولا يعرف شيئاً عن الفارق الهائل بين تكلفة المنتج وسعر البيع، ففارق القيمة هذا لايمكن اعتباره سوى سرقة خالصة لامراء فيها.
هنا تلعب وسائل الاعلام والدعاية، دوراً خطيراً في عملية تسهيل هذه السرقة، وتلعب دوراً أخطر في اللعب على نوتة الغرائز البشرية، كي توجهها الى النمط الاستهلاكي السطحي، الذي تريده الشركات المنتجه.
ولذلك وجب علينا التساؤل، هل وسائل الاعلام والدعاية، أوصلت البشرية الى مستوى من الجهل والغباء والاصابة بالعمى الروحي؟ الذي يزداد عاماً بعد عام، وهل تلك الوسائل تسعى الى تدمير الروح الانسانية في بني البشر خدمة للنظام المالي العالمي؟ والإجابة على التساؤلات هذه، يمكن القول أن تلك الوسائل جعلت من الانسان العادي، كائناً سهلاً توجيهه، وأحياناً مسلوب الاراداة.
فوسائل الاعلام والدعاية المعاصرة، بما تمتلكه من تقنيات حديثة تثير الانبهار والشجون، تلعب دوراً خطيراً في عملية التضليل والخداع والتحايل لابعاد الانظار عن الفهم الحقيقي للمنظومة المالية العالمية المعاصرة.
الى جانب دور وسائل الاعلام والدعاية، في دعم المنظومة المالية العالمية المعاصرة، تصطف الاساطيل والقواعد العسكرية الامريكية المنتشرة في شتى ارجاء العالم، والشركات العالمية العابرة للقارات، والمؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرها الكثير، بالدور نفسه، لاخضاع الشعوب والدول بشتى أساليب التحايل والاغراء، حتى ان تلك القوى تمارس التهديد بواسطة قتلة اقتصاديين أمثال جون بركينز، الذي عمل فترة طويلة في C.I.A وصاحب كتاب " القاتل الاقتصادي "، الذي اختصرت مهامه في توريط الدول في قروض ترهق كاهل شعوبها، وتجعل من الدول أداة طيعة للسياسة الغربية.
حتى أن تلك القوى الغربية تمارس التهديد المباشر باستعمال القوة والابتزاز السياسي، ففي الحقبة الزمنية الماضية، حاولت الولايات المتحدة الامريكية قلب نظام الحكم في 127 دولة وحاولت اغتيال 54 زعيماً وطنياً في دول العالم الثالث، واشعلت حروباً أهلية في 85 دولة، الى جانب الحروب التي اشعلتها في منظقتنا اخيراً في العراق وافغانستان وسوريا وليبيا واليمن ودول اخرى.
فقد تغير الزمان، لكن وسائل الضغط لم تتغير، بل تطورت وازدادت فتكاً وتدميراً، في السابق زمن الامبراطورية الرومانية على سبيل المثال، الهيمنة كانت قائمة على الفيالق الحربية والهيمنة الاقتصادية، وكذلك اليوم. الهيمنة الامريكية والغربية، تقوم بفعل الشيء نفسه، فلم يتغير شيئاً عن ذلك الزمان، فالهدف واحد، إخضاع الشعوب والدول وحتى الافراد لخدمة المنظومة المالية العالمية المعاصرة، بفرض سياسة النهب الاقتصادي، وفرض التبادل غير المتكافئ في الاقتصاد الدولي. كل ذلك من أجل الحفاظ على استمرارية نهب امكانيات وثروات الشعوب.
فظاهرة التبادل غير المتكافئ في التجارة الدولية احدى أساليب النهب والاستعباد للشعوب، في بلدان العالم الثاني، في اّسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، وأضف اليهم شعوب ودول أوروبا الشرقية حالياً، التي تحولت بعد التغيرات والعودة الى نظام الرأسمالية المتوحش، الى اسواق للدول الغربية.
وبخصوص نهب شعوب اوروبا الشرقية، يمكن الاشارة الى قول احد مفكري تلك الشعوب، الذي قال لي " ان ما لم يستطيع هتلر ان يطبقه بالقوة العسكرية للسيطرة على اقتصاديات شعوب اوروبا الشرقية، استطاع الغرب ان يطبقه من خلال السياسات الاقتصادية للاتحاد الاوروبي ".
فتلك الدول أيام النظم الاشتراكية، كانت تبني وتطور اقتصادياتها اعتماداً على فائض القيمة الناتج عن عمل شعوبها، بينما الان فائض القيمة المنتج يذهب الى دول الغرب وشركاته، بعد ان تم شراء المصانع والشركات الكبيرة مثل مصانع الحديد والصلب ومصانع السيارات ومصانع الصناعات الثقيلة، ... وغيرها. وتحويل اسواق تلك الدول الى اسواق مستهلكة للسلع والبضائع الغربية الى جانب تمزيق النسيج الاجتماعي المتزن والخالي من الفوارق بين الطبقات الاجتماعية، وخلق نسيج اجتماعي مليئ بالسلبيات، مثل مئات الالاف من المشردين، وارتفاع الاسعار التي لا تتناسب ومستويات الدخل، وارتفاع نسب الجريمة ، وتفاقم اساليب الفساد وتراجع الخدمات الاجتماعية من مجانية التعليم والصحة وغيرها من المنتجات السلبية لنظم الراسمالية.
النظم الاشتراكية سابقاً في اوروبا الشرقية، كانت أكثر عدلاً وانصافاً، واذا اردنا تقييم الحياة الاقتصادية والاجتماعية لشعوب اوروبا الشرقية في ظل النظم الاشتراكية، سنجد ان تلك الانظمة لم تترك مجالاً للعبودية المالية للبنوك والشركات لتفرض عبوديتها على السكان. وذلك لان تلك البنوك والشركات والمصانع كانت ملكاً للدول او بشكل أدق ملكاً للشعوب، وقد كان القليل من السكان الذين كانو يلجئون لأخذ القروض. واذا قارنا مثلا القيمة الشرائية للأجر في ذلك الوقت مع القيمة الشرائية للاجر في الوقت الراهن في ظل الرأسمالية، لتبين لنا أن قيمة نفس السلع والبضائع والعقارات، تضاعفت عشرات المرات قي ظل الرأسمالية، مع ان القيمة الشرائية للأجر سابقاً تفوق القيمة الشرائية للأجر في ظل الرأسمالية، اي ان القيمة الشرائية لعملات تلك الدول في ظل الاشتراكية أعلى بكثير من القيمة الشرائية لعملة اليورو المتداولة الآن فيها. كذلك في ظل النظم السابقة في تلك الدول، لم يوجد طبقات الأغنياء والفقراء، ولم يكن للبنوك سلطة على الناس، أي لا وجود للعبودية الاقتصادية التي نراها اليوم في مجتمعات تلك الدول، الآن في ظل الرأسمالية.
والتحول في دول اوروبا الشرقية من الاقتصاد الاشتراكي الى الاقتصاد الرأسمالي، لم يكن كافياً لتلبية رغبات المعسكر الغربي.
بل وجب أن يقترن التحول الاقتصادي تحولاً سياسياً، على اعتبار ان الدول الغربية ترى لا مصداقية للتحول الاقتصادي نحو الرأسمالية، اذا لم يرافقه تحولاً سياساً، وخاصة بما يتعلق بالسياسة الخارجية والعلاقات السياسية والاقتصادية الدولية لدول اوروبا الشرقية، بل عليه أن يتناغم مع السياسات الغربية.
فالنظم الجديدة في دول اوروبا الشرقية، كانت سباقة بتقديم الايحاءات للغرب عن استعدادها الالتزام بسياسته. ولترجمة تلك الايحاءات، بدأت تلك النظم، السير في طريق فك الارتباط مع كل ما يمت للافكار والسياسات والاطر والمؤسسات للنظم الاشتراكية.
ومن أجل فك الارتباط بالشرق، قامت بتصفية كل ما يمت بمنظومة الدول الاشتراكية، وفي مقدمتها حل حلف وارسو، الذي أوكلت له مهمة الدفاع عن أمن وسيادة دول أوروبا الاشتراكية، والحفاظ على التوازن العسكري الاستراتيجي مع حلف الاطلسي " الناتو ". وحل مجلس التعاضد الاقتصادي، الذي كان يجمع الدول الاشتراكية في تجمع اقتصادي، كان له تأثيره وثقله على الصعيد الاقتصادي العالمي والدولي.
وفي بداية التحولات نحو الرأسمالية في دول اوروبا الشرقية، وبعد حل النظم الاشتراكية، ساد انطباع عام شاركت في بلورته الاوساط السياسية للنظم الجديدة ووسائل الاعلام المختلفة والدول الغربية، ان تبني السياسة الغربية سيأتي بالخير الكثير من الدعم والمساعدات المادية والمالية لشعوب اوروبا الشرقية، الى درجة ان ذلك الانطباع كان دافعاً لتشكيل الهيئات واللجان لتنظيم عملية استيعاب ذلك الخير تجنباً للآثار السلبية، التي قد تنجم عن التدفق المفاجئ لذلك الخير الوفير.
بل بقي الغرب يلوح بطعم المساعدات والخير من بعيد، فارضاً الشروط تلو الشروط، على النظم الجديدة، كي تخطو خطوات عملية وسريعة من أجل اثبات كفاءة وحسن نوايا تلك النظم، ومن أجل الانصياع لتلك الشروط، سارعت تلك النظم بتقديم الطلبات للانضمام الى الحلف الأطلسي والانضمام الى السوق الاوروبية المشتركة، لكن الدول الغربية قابلت تلك الطلبات بالرفض وعدم الترحيب، بحجة العوائق الاقتصادية وعدم جاهزية اقتصاديات تلك النظم على التجانس والانخراط في النظم الراسمالية الغربية ، وعدم تجانس المواقف السياسية لتلك النظم مع السياسات الغربية في تلك الفترة، فسارعت تلك النظم على التغيير في السياسات، بإعادة العلاقات مع إسرائيل وتأييد السياسة الامريكية في أزمة الخليج، بل إرسال قوات عسكرية لمشاركة الجيش الامريكي في عدوانه على العراق في بداية تسعينيات القرن الماضي.
فعملية التحول من النظام الاقتصادي الاشتراكي الى النظام الاقتصادي الراسمالي، اتسمت بدرجات متفاوتة من السرعة والشمولية، قياساً من قطاع اقتصادي الى قطاع آخر، وفق رغبات وأهداف رأس المال الغربي.
وقد تم التحول من خلال عملية بيع ممتلكات الدولة، التي تخللها الكثير من التجاوزات والتحايل والتلاعب في تقديرات القيمة الحقيقية لتلك الممتلكات، ونتيجة ذلك فقد بيعت مصانع ومؤسسات بأبخس الاثمان، وضمن تلك العملية تم انتقاء للمصانع ذات القيمة الاستراتيجية وشراؤها من قبل راس المال الغربي وخاصة الالماني.
عملية التحول تلك كان لها هدف تطويع اقتصاديات دول شرق اوروبا للعالم الغربي، وهدف آخر هو جعل تلك الدول أسواقاً للغرب، وجعل شعوبها واقتصادياتها مصدر نهب جديد، وقد تحققت تلك الاهداف، والآن نرى أن دولة مثل تشيكوسلوفاكيا تستورد الزبدة والاجبان والبيض من الدول الغربية، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
ومن حقيقة فهم خصائص الرأسمالية الغربية، نستطيع القول وبقناعة تامة، أن لا دور ذو قيمة سيذكر في المستقبل لدول أوروبا الشرقية بإستمرار ارتباطها بالغرب، بل مستقبلها ودورها المؤثر في السياسة الدولية سيكون بإرتباطها بالشرق ودوله وخاصة التعاون مع روسيا. وما يدعم الارتباط والتعاون، جذور الارتباط العرقي مع الشعب الروسي، بكون أن غالبية شعوب اوروبا الشرقية هم من العرق الصلافي، الذي يعتبره الغرب لا يرقى الى العرق الانجلوسكسوني.
وهنا يمكن الاشارة بخصوص هذا، محاولات تركيا الانضمام الى الاتحاد الاوروبي، والتي بذلت جهود جبّارة لتلبية رغبات الغرب علّ يسمح لها أن تقوم عضواً فيه. وقد باءت تلك الجهود والمحاولات بالفشل، ولا زالت تركيا تعتبر خارج إيطار الاتحاد الاوروبي، على الرغم من أنّ تركيا عضواً في حلف الناتو، ولها تاريخ عميق بالالتزام بالسياسات الغربية.
وقد كان على الساسة الأتراك منذ البداية، أن يدركوا أن لا مستقبل لهم في توجههم الى الغرب، بل مستقبلهم نحو الشرق. لأن الشرق لهم فيه أواصر تاريخية ودينية عريقة، تكونت عبر قرون قد مضت.ولذا نرى أن تركيا في الآونة الاخيرة بدأت تولي أهمية كبيرة للتوجه نحو الشرق ودوله، لإدراكها ولو متأخراً أن لا مستبقل ذو قيمة ومؤثر إلّا في الشرق.
وبذلك اختفى مفهوم العالم الثاني الذي كان يشير الى عالم الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية، وأصبح أمامنا عالمان، عالم الرأسمالية الغربية والاقتصاديات المركزية، والعالم الثاني الذي يضم تحت جناحيه بقية دول وشعوب العالم الأخرى.
عالمان قائمان على قاعدة العلاقة غير المتكافئة في العلاقات التجارية، ولتقريب مفهوم التبادل غير المتكافئ في التجارة الدولية، نفترض على سبيل المثال، ان طناً واحداً من القمح المصدر للغرب في الماضي، كان كافياً لشراء جرار واحد، أمّا اليوم فلا يكفي لشراء ثلث جرار أو أقل من ذلك، وهذا يعني أن قيمة المنتج في اقتصاديات الهوامش بقيت كما هي أو زادت قليلاً أو حتى انخفضت، بينما قيمة المنتج في الاقتصاديات المركزية تضاعفت عشرات المرات، أي أن صادرات الدول الغربية ترتفع اسعارها باستمرار وبنسبة عالية جداً، عكس أسعار صادرات دول الهوامش، بل انخفضت اذا ما قورنت مع أسعار صادرات الدول الغربية.
ولهذا علينا عدم الانخداع بمفهوم حرية السوق وحرية التجارة والاقتصاد الحر، لأن التجارة العالمية محكومة بمجموعة من السياسات التجارية والاقتصادية والمالية، التي تتحكم بها دول الغرب واحتكاراته العالمية وشركاته العابرة للقارات، التي تفرض نفسها على العالم. وعلى الجميع أن يتقيد وينفذ، وإلّا هناك إجراءات ضغط وقيود ومقاطعة وحصار، ستفرض على الدول التي تخالف، وواقعنا مليئ بالأمثلة مثل إجراءات الحصار والمقاطعة ومن القيود التي فرضت على روسيا والصين وايران وسوريا وفنزويلا وكوبا وفلسطين وغيرها الكثير.
في عالمنا المعاصر، ليست ظاهرة التبادل غير المتكافئ بين الغرب والدول والأخرى فقط، بل هناك آلية التحكم بإعادة توزيع الموارد العالمية، بواسطة التلاعب بأسعار صرف العملات، الذي جسده نظام جاميكا النقدي العالمي، الذي نشأ في سنوات السبعينيات من القرن الماضي، الذي حدد سلفاً وجود أسعار عائمة للعملات، أتاح بفعل هذا النظام ممارسة الضغوطات والتدخلات النقدية والمالية لخفض قيمة عملات الدول مقارنة بقيمة الدولار الامريكي، كما حصل العام الماضي مع العملة التركية.
والحقيقة الفاضحة، أن الدولار الامريكي بات لا يستند إلا إلى جبروت الاساطيل الحربية والقواعد العسكرية الامريكية المنتشرة في كل أرجاء العالم. ومادام سعر صرف الدولار بإرتفاع وثبات، فإن الولايات المتحدة الامريكية، باقية الدولة الأولى في العالم، التي تتحكم بشؤون الشعوب والدول، والغريب أن الجميع يدرك هذه الحقيقة، إلا أنه لا أحد يتخلى عن الدولار.
وللدلالة على ماورد، نورد بعض الافكار التي يطرحها بعض المفكرين الافارقة حول علاقة افريقيا بالغب، . وهنا يطرحون سؤلا,لماذا 5000 وحدة من عملة إحدى الدول الافريقية تساوي وحدة واحدة من عملة الدولار ؟. على الرغم من ان تلك الدولة تمتلك احتياطياً حقيقياً من الذهب، واذا غصنا بالأعماق في اقتصاديات الدول الافريقية، نصل الى حقيقة، ان العالم الغربي ليس هو من يساعد افريقيا، بل افريقيا هي من تساعد العالم الغربي، باطن الواقع يقول ان من المفروض أن يكون العالم الغربي رهيناً لافريقيا، لكون العالم الغربي يكاد يكون معدوماً من الثروات الطبيعية.
لكن كيف يمكن للعالم الغربي ان يحصل على إعانة مجانية متواصلة من افريقيا ؟ مع أن وسائل الإعلام العالمية تضخ مفاهيم مغلوطة، وهي أن العالم الغربي هو من يقدم الهبات والمعونات الى افريقيا.
هذا يتم بواسطة الإرث الاستعماري الغربي لأفريقيا، وبواسطة نشر وإشعال الفتن والصراعات، من خلال حملات إعلامية عملاقة، جعلت العالم يعتقد أن افريقيا فقيرة وتحتضر، ولا يمكن إنقاذها إلاّ بواسطة تبرعات وإعانات العالم الغربي.
العالم الغربي اتقن اللعبة جيداً من خلال المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، مثل يونيسيف، اوكسفام، الصليب الأحمر، لايف ايد وغيرها.
تلك المنظمات أنفقت ملايين الدولارات على الحملات الإشهارية، لتبرز قيمة تلك التبرعات والمعونات الإنسانية ومردودها على الشعوب الأفريقية الفقيرة المسكينة، حتى تسود هذه الصورة لأفريقيا في كل أنحاء العالم، حتى تجلب التبرعات أيضاً من طرف أناس طيبيين، يعتقدون أنهم يقدمون المساعدة عن طريق صدقاتهم. وهنا تظهر صورة اليد الانسانية تحت أضواء الكاشفات وآلات التصوير، بينما يد النهب والاحتيال تجني الأموال والثروات في الخفاء.
وهنا يشيرون الى أنّ ./ الدولار لا يساوي شيئاً، وأن اليورو لا يعكس الّا الذكاء والتقنية الألمانية، وربما المعكرونة الإيطالية، فكيف تلك الدول تقدم الهبات والمعونات ؟ يتم ذلك بواسطة الإعلام وقلب الحقائق، إلى درجة تصل فيها شعوب افريقيا لأن تقدم الشكر على أنّ الغرب يقدم الأقلام الملونة، والشنط المدرسية، بينما في الواقع يأخذون مقابل ذلك الذهب والماس وغيرهما /
في سنوات القرن الماضي، حاولت بعض الدول الانعتاق من هيمنة الدولار، أمّا الآن نرى أنّ الجميع يجري وراء الدولار، إلاّ ما ندر من الدول التي تحبو بخطوات بطيئة نحو الانعتاق من هيمنة الدولار، وخاصة دول مجموعة بريكس التي تضم كلاً من الصين ، روسيا، الهند، جنوب افريقيا، البرازيل.
لكن لا زالت سياسة النهب مستمرة بفضل طفلية الغرب وتحديداً الولايات المتحدة، في ظل التطورات والصراعات في الساحة الدولية. هل سنرى انهيار الامبراطورية الامريكية، كما انهارت الامبراطورية الرومانية بفعل عوامل داخلية وخارجية ؟.
في ظل المنظور القريب، لا بوادر تشير الى انهيار الامبراطورية الامريكية، على الرغم من الفقاعات والنكسات التي تواجهها، وعلى الرغم من صعود عملاق مثل الصين ودول البريكس، لكن عِبْر التاريخ، تشير الى أن لا ثبات وسكون في المجتمعات، فالتفاعلات تجري بفعل طاقات ديناميكية تحدث هنا وهناك، وليس المجتمع في الولايات المتحدة الامريكية مستثنى منها.
ولذلك نرى الكثير من الفقاعات المالية والنكسات الاقتصادية تظهر في فترات متفاوته في العالم الغربي، وخاصة المجتمع الامريكي، اساسها ان القوة الاقتصدية الامريكية مكفولة بقوة الهيمنة والسطوة المدعومة بالقوة العسكرية، عكس ماكان في الامبراطورية الرومانية، حيث قوتها الاقتصادية كانت مكفولة بالذهب والسلع.
كما تعلمنا سابقاً، ان الانتاج هو النتيجة النهائية للنشاط الاقتصادي – الاجتماعي، المعتمد على ثلاثة عناصر وهي: الموارد الطبيعية، رأس المال وقوة العمل. أمّا في هذا العصر، فالصراع على الساحة الاقتصادية الدولية، يدور حول عنصرين فقط، هما رأس المال والموارد الطبيعية، ولا وجود لأي صراع حول قوة العمل. هذه اللوحة المرعبة التي تظهر أمامنا، والتي يمكن الاشارة إليها في ما جاء في روايات الكاتب الشهير رأي براد بري، على لسان أحد أبطال رواياته، أن الانسان في زماننا أصبح مثل منديل ورقي يستعملونه لمرة واحدة.
فعالمنا المعاصر هذا، يجسد بمعنى الكلمة مفهوم العبودية، الذي تعددت آلياته وأدواته، وأصبح له مفهوم قديم تقليدي، الذي يقتصر على امتلاك الانسان، إنساناً آخر، كأي ملكية قانونية. ومفهوم جديد أو المفهوم العصري للعبودية، وهو في اطار مفهوم العبودية الاقتصادية – الاجتماعية، ويعني ذلك أن يستخدم شخص شخصاً آخر، ويستحوذ على حصيلة نشاطه وجهده الذهني، أي بمعنى الاستحواذ على ناتج عمل الغير. والاكثر عمقاً لهذا المفهوم، هو العبودية الروحية الفكرية. الذي يتجسد بإيصال الانسان الى درجة أن يتصرف وفق القيم المادية والروحية، التي يتم غرسها في أسلوب ومحتوى تفكيره، بواسطة الهيمنة الدعائية والاعلامية، التي تظهر للانسان بصورة جذّابة وبرّاقة.
فالرأسمالية الحالية الان بالمعنى الواسع والعبودية هما وجهان لعملة واحدة.
في العهود القديمة، تواجدت العبودية دون تواجد الرأسمالية، أمّا الآن فالرأسمالية المعاصرة موجودة أساساً بفعل عبودية الإنسان والشعوب، عبر استغلال جهودهم وامكانياتهم العملية والذهنية، وهي عبودية تدر أرباحاً طائلة، وجسدت عبودية الانسان لرب عمله.
بل إن العبودية المعاصرة أكثر قسوة وبشاعة من عبودية الماضي، في العصور القديمة. ففي تلك العصور، كان السيد أو مالك العبد، دائم الحرص على أن يكون عبده، بصحة جيدة وصاحب ذرية، لأنه ذات قيمة ثمينة، يجلب له الفائدة والأرباح.
وهذا يتطابق كذلك مع ملكية الانسان لدوابه وماشيته، التي يفلح بها الارض وتدر له الأرباح مما تنتج ومن تكاثرها، وعند مرضها أو عند إصابتها بمكروه، يدرك صاحبها أن فوائدها ستقل، ولذلك كان حريصاً كل الحرص على أن لا تمرض ماشيته ودوابه.
أمّا في هذا العصر، المؤسسات الرأسمالية تعمل على صناعة الإنسان، كأداة طيّعة لها، سرعان ما تستبدله يأداة أخرى لأتفه الأسباب، وكأن الإنسان أداة استعمال لمرة واحدة، وهنا تكمن قسوة وبشاعة العبودية المعاصرة.
التغيير الحاصل في مجال علاقات العمل الدولية، دفع الى تغيير أساليب الاستغلال والنهب على المستوى العالمي. سابقاً في القرن العشرين، كان سائداً في علاقات العمل الدولي، النظام الاستعماري الكولونيالي، الذي كان قائماً على احتلال واستعمار البلدان الفقيرة والضعيفة، من قبل البلدان الاستعمارية بالقوة العسكرية، والتي كانت تمارس عملية نهب واستغلال الشعوب بحكم تواجدها عسكرياً في تلك البلدان. هذا النظام أصبح من الماضي بعد نيل تلك البلدان استقلالها، ولم تبق بلدان مستعمرة سوى فلسطين.
وأصبحت عملية النهب والاستغلال تتم بطريقة غير مباشرة، من خلال الشركات العالمية ونفوذها المهيمن في شتى أرجاء المعمورة، وكذلك من خلال ممارسة الضغوطات والتهديدات من قبل الدول الغربية المتنفذة على تلك البلدان الفقيرة. وعملية النهب هذه لا تقل استغلالاً لإمكانات الشعوب عن النظام الاستعماري المباشر.
وفي هذا العصر، أصبح للنهب اشكال مختلفة سواء كان من الشعوب أو من الدول او الافراد. هنا نلاحظ ان العبودية الاقتصادية – الاجتماعية، تتجسد في أنماط مختلفة، مثل عبودية الضرائب، عبودية المال، العبودية المأجورة، العبودية الاستهلاكية. على سبيل المثال، العبودية المالية او الائتمانية، نرى ان العالم الرأسمالي العالمي الحالي يتوافق بالكامل مع مفهوم حضارة المال أو الحضارة النقدية. وهذا يقدم لنا مفهوماً مفاده ان مغزى الحياة يتلخص في السعي الحثيث وراء جلب المال، حتى بدون ضوابط وقيم وأخلاق. حتى أنّ هذا المفهوم أصبح راسخاً حتى في عقول الأفراد، بكونه ضرورة ملحة لتلبية عبودية الاستهلاك.
الذي يدفع الانسان بمحض ارادته الى الوقوع في عبودية الدين أي عبودية القروض المصرفية والتزاماتها. وكما نعلم ان الدين يتألف من القرض نفسه، ومن الالتزامات المالية المترتبة عليه من أقساط وفوائد، وهذا ما ينجم عن ذلك التزامات امام المصرف، وبذلك يكون الانسان قد رهن نفسه وممتلكاته الى المصارف، وحمل نفسه أعباء مالية ونفسية، تفرض عليه ليس تسديد قيمة القرض فقط، بل تسديد ما لا علم له به، وهو مكونات قرضه من فوائد وعمولات، وعلى سبيل المثال، أن عدد العمولات والفوائد التي تتقاضاها البنوك في فلسطين تزيد عن 50 نوعاً من العمولات التي لا نعلم ماهيتها، وقيمتها.
واذا نظرنا نظرة متشائمة الى المستقبل البعيد، سنجد ان سادة المال الذين احتكروا آلة صك العملة، وامتلكوا سلطة إصدار النقود الائتمانية، سيضعون ايديهم على كل ثروات العالم.
أي عندما يسدد الناس والشعوب قروضهم، فإنهم لايسددون ما عليهم من دين وحسب، بل أيضاً يسددون مبالغ تفوق قيمة قروضهم، دون ان يكونوا على دراية بمكونات ديونهم، والقليل يدركون خير إدراك من بعيدي النظر، ان هذا النموذج إن بقي على حاله، فسيجد الجميع أنفسهم حفاة عراة لا مجير لهم.
وقد أشرنا سابقاً أن العبودية الائتمانية أو عبودية الديون، مرتبطة بالعبودة المأجورة. لننظر ماذا يفعل المرء بعد ان يحصل على وظيفة في مؤسسة او شركة ما. أول ما يقوم به عند استلام راتبه، هو الاكتتاب لأخذ قرض، لدفع ثمن مشترياته مثل سيارة، شقة، اثاث، اجهزة كهربائية، الزواج، وما شابه ذلك. عند توقيعة على مستندات القرض يصبح تابعاً مكبلاً للمكان الذي يعمل به أي تابعاً لمشغله تبعية مطلقة لا انفكاك منها.
وأرباب العمل على دراية، أن معظم الموظفين لديهم، مرتبطون بهم ارتباطاً وثيقاً، في فترة سداد القرض، ولن يكون الموظفون على مقدرة على سداد الدين عند فقدانهم عملهم. من هنا تبدأ تباشير ومظاهر عبودية الموظف لرب عمله، أي هنا تظهر العبودية المأجورة، المرتبطة مباشرة بعبودية الدين.
الانسان في الواقع، يكدح من أجل تأمين القدرة المالية، لتسديد ثمن احتياجاته، وبكون الحياة المعاصرة تعقدت وكثرت التزاماتها واغراءاتها، أصبح الانسان فيها غير قادر على تسديد التزامته من خلال راتبه، ولذلك يلجأ الى القروض لدفع ثمن احتياجاته، التي تظهر في وعيه عبر ضغط الحاجة وضغط الدعاية والاعلام على وعيه الباطني.
في كتاب " جون بركنز " اعترافات قاتل اقتصادي" وصفاً دقيقاُ لكيفية فرض القروض على مستوى الدول والأفراد. من خلال تأثير الدعاية والاعلام وخلق رد الفعلي اللا ارادي لدى الانسان. أهمها الحصول على المتاع وهذه ليست بالمجان، بل يجب دفع ثمنها، وتزداد هذه الرغبة باستمرار مع الزمن. وفي هذا الفعل اللاارادي بداية المشوار نحو العبودية الاستهلاكية، ومن أجل تأمين رغبة الاستهلاك والحصول على احتياجاته التي رسخت في وعيه الباطني بواسطة الدعاية والاعلام، تبدأ عملية الخضوع والرضوخ لرغبة جمع المال، وتتزايد هذه الرغبة بشكل مفرط، عندها يفقد الانسان الكثير من القيم والاخلاق، ومع تزايد خضوعه لتلك الرغبه يزداد شعوره بالخوف لديه من المستقبل. وهذا سيساعد على دفعه للقيام بأي أفعال تناسب وترضي أصحاب العمل والمال وأرباب العمل.
وأفضل مثال على استغلال شعور الخوف لدى الافراد والشعوب، لجوء الكثير من الدول الى بث مخاوف عدم الاستقرار والامان من الاعداء المختلقين. والولايات المتحدة، أفضل مثال على ذلك، وخاصة وزارة الدفاع، والمؤسسات الامنية فيها، التي تبث الرعب والأخطار والتهديدات الخارجية المزعومة، والتي لا وجود لها غالباً، كما حصل مع العديد من الدول مثل العراق، وادعاء خطورة اسلحته الذرية، والاتحاد السوفيتي سابقاً، واليوم مثل روسيا، الصين، إيران، فنزويلا ... الى اخر القائمة، كذلك افتعال الحروب لتدمير بلدان ودول أخرى للاستفادة بعد التدمير من أموال إعادة التعمير. وفي الحقيقة وفي واقع الحال تذهب تلك الاموال الى صنادبق شركات المجمع العسكري الحربي، الذي يقف وراءه في النهاية، اصحاب المال، و هدفهم ليس الحصول على الأموال فقط، بل أيضاً الهيمنة والسيطرة على العالم ومقدراته.
وهذا ما أجاد وصفه وليم شكسبير، في مسرحية " تاجر البندقية " عندما شخص نفسية المرابي اليهودي شيلوك، الذي لا يحلم بأن تعود له القروض التي يقدمها، بل يحلم في الحصول على الكفالات المادية الملموسة، من أجل الهيمنة والسيطرة.
في عصرنا الراهن، تعمل المصارف التجارية على هذا النمط تماماً فالأجدى فائدة لتلك المصارف، أن تصوغ إتفاقية القرض، على نحو تجعل طالب القرض عاجزاً عن السداد، كي تضع يدها على كل ما كفل به قرضه، من عقارات وممتلكات، أي ماله قيمة حقيقية على أرض الواقع، وليس قيمة وهمية كالنقود.
ومن أجل وضع اليد على تلك الممتلكات والعقارات، تفتعل أزمات مالية وعقارية في هذا البلد او ذاك من العالم. وفي ظل تلك الازمات تلجأ تلك المصارف لتطمين المقترضين، بأن لا يقلقوا لأنها على استعداد لتمويل ديونكم، وعلى هذا الشكل يبنى الهرم الائتماني العالمي.
وقد يطرح السؤال التالي، كيف تنهار تلك الأهرامات ؟ هل تنهار بفعل ذاتها بسبب تغير حالة الطلب والعرض في أسواق السلع أو الأوراق المالية ؟ أم أنها تنهار بفعل فاعل يتسبب عمداً بإنهيارها ؟
مما لا شك فيه ان ثمة ظروفاً موضوعية تسهل قيام تلك الأهرامات، وهو النموذج السلعي الائتماني والنموذج الاجتماعي الاقتصادي، المعمول به في العالم.
لكن سادة المال يحتفظون لأنفسهم، حق زعزعة هذا الهرم واسقاطه، بناء على مخططاتهم الموضوعة سابقاً، ولذلك هم على دراية تامة في أي لحظة بل وفي أي ساعة سيحدث الزلزال، وتنهار تلك الأهرامات المالية والعقارية.
في ظل ما قيل عن أحدث الانهيارات السابقة للقطاعات الاقتصادية والمالية يستحضرني ما جاء في رواية الكاتب والروائي التشيكي " كارال جابك " في رواية R.U.R التي كتبها في عام 1920، حول مصير البشرية والانسانية في ظل حقبة التطور العلمي والتقني في المستقبل، عندما تخيل صناعة الانسان الآلي، والذي أطلق عليه اسم Robot، روبت المشتقة من الكلمة التشيكية Robota التي تعني العمل، وهذا المصطلح لأول مرة في التاريخ يستعمل من قبل كارك جابك والذي أصبح في عصرنا هذا متداولاً.
وقد حذر جابك في روايته حول موجة الاقتصاد الحر وحرية السوق المطلقة العنان بعد احداث الحرب العالمية الأولى، من خلال احداث روايته التي بث من خلالها العديد من التحذيرات لمستقبل البشرية والانسان، عندما أشار الى أن التقدم العلمي والتقني المستقبلي المطلق العنان، سيؤدي الى صناعة إنسان آلي ذي قدرة ذهنية وعملية تخطت حدود امكانيات الانسان وقدرته على التحكم والمراقبة، الى درجة أن مصير البشرية أصبح تحت رحمة الصناعة المستقبلية والتي مثلها بالانسان الآلي، والذي سعى لتدمير البشرية بأكملها.