رغم أن الأسواق الدولية لم تصل بعد إلى حالة الفزع، إلا أن القلق يتصاعد يوما بعد آخر من إمكانية تعرض سوق الأسهم في الصين وربما الولايات المتحدة أيضا إلى هزة عنيفة، تدفع الأسواق الدولية إلى الانهيار التام أو ما يقارب الانهيار، ليعيد إلى الأذهان إمكانية تكرار سيناريو الأزمة المالية في 2008 بشكل أو بآخر.
لكن منبع القلق هو المؤشرات القادمة من أسواق المال الصينية التي ترسخ مشاعر القلق في الأسواق كافة.
وبالنسبة إلى الصين، فإن سوق الأسهم تسير من وجهة نظر كثير من المختصين نحو الركود، خاصة بعد أن تراجع مستوى اليوان إلى أدنى مستوى له منذ عامين.
ورغم نجاح الحكومة الصينية في الحفاظ على هدوء الأسواق حتى الآن على الأقل، إلا أن هذا لا ينفي تزايد المخاطر بالنسبة إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم والأول آسيويا.
ويقول لـ "الاقتصادية"، راسل ديكز المحلل المالي في بورصة لندن، "إن هشاشة الأسواق الصينية حاليا تتجلى في عدد من المؤشرات الخطيرة، إذ أسهمت المخاوف من المخاطر المستقبلية بما يقارب 3 في المائة من نسبة الانخفاض الراهن في بورصة شنغهاي، التي وصلت إلى أدنى مستوى لها منذ أربع سنوات تقريبا، ومنذ كانون الثاني (يناير) الماضي وحتى الآن انخفض مؤشر بورصة شنغهاي بنحو 30 في المائة، ومقابل ارتفاع سهم واحد هناك 13 سهما تعاني انخفاض قيمتها، وقد فشلت الجهود الحكومية في تعزيز الثقة لدى الشركات الصغيرة إلى الآن".
ويضيف ديكز، أن "الأسواق الصينية تزداد تقلبا كل يوم، ومن المحتمل أن يظل الوضع كذلك خلال الأشهر المقبلة، ويوما بعد آخر تزداد القناعة بأن الاقتصاد الصيني سيتأثر بشدة بالحرب التجارية مع الولايات المتحدة، إلا أن الآثار السلبية لن تظهر بشكل واضح إلا في الربع الأخير من العام المقبل".
ويسعى صانعو السياسة المالية في الصين بالطبع إلى الحفاظ على الاستقرار المالي، وسط أجواء من التباطؤ الملحوظ للنمو الاقتصادي، وارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية وتزايد قوة الدولار، وكل هذا يربك المشهد الاقتصادي الدولي، ويزيد من الضغوط التي تتعرض لها الصين.
وعلى الرغم من أن بكين لم تتخذ حتى الآن إجراءات إنقاذ ضخمة على غرار ما تبنته من تدابير في عام 2015، عندما تعرضت سوق الأسهم الصينية للانهيار، فإن عديدا من المستثمرين والمختصين يعتقدون أن الوقت قد حان لتتدخل الدولة بحزمة من الإجراءات السريعة لإنقاذ الوضع قبل مزيد من هبوط الأسهم في البورصات الصينية.
ويعتقد الدكتور هارلي سميث أستاذ الاقتصاد الآسيوي أنه لم يحن الوقت بعد لتلقي الدولة بثقلها التام خلف الماكينة الاقتصادية في محاولة لرفعها، مؤكدا أن وضع الاقتصاد الصيني خاصة سوق الأسهم لا يزال مقبولا في ظل الضغوط الدولية التي يتعرض لها، وأن التزام الدولة أمام المستثمرين بالتدخل إذا تطلب الأمر ذلك، سيكون كافيا.
ويضيف لـ "الاقتصادية"، أنه "على الرغم من أن معدل النمو الصيني خلال الربع الثالث من هذا العام البالغ 6.5 في المائة هو الأدنى تقريبا خلال العقد الماضي، إلا أن ردود الفعل الأولية للبورصة الصينية كانت إيجابية، وهذا يكشف شعورا عاما بوجود قناعة بأن أسس الاقتصاد الصيني قوية، وأن الأزمة التي يمر بها عابرة، وفي مثل تلك الأوضاع فإن التطمينات الرسمية من قبل المسؤولين، وفي مقدمتهم محافظ البنك المركزي ورئيس هيئة الأوراق المالية كافية، خاصة إذا رافق تلك التطمينات بعض الإجراءات المحدودة لمساعدة سوق الأسهم المتعثر على وقف مسارها الهبوطي، وهذا سيشجع رؤوس الأموال على مواجهة صعوبات توافر السيولة، وسيسمح للاقتصاد الصيني باستعادة ثقة المستثمرين".
ويحذر سميث من أن "اللجوء الدائم إلى تدخل الدولة كلما برزت التحديات الاقتصادية، لن يسمح للمبادرة الفردية بالنمو، ولن يساعد الاقتصاد الصيني على تشكيل وتكوين آلياته الداخلية القادرة على التعامل مع الأزمات، ما يفقد الاقتصاد كثيرا من حيويته ويعوقه عن اكتشاف قدراته الحقيقية".
إلا أن مجموعة أخرى من المختصين لا تتفق مع وجهة النظر تلك، وترى أن موقف وزير الخزانة الأمريكية بأنه لا يوجد تلاعب في العملة من قبل الصين، يجب أن يمثل قوة محفزة لبكين للتدخل بقوة لدعم الاقتصاد للحد من أي تدهور مستقبلي ممكن الحدوث.
الدكتور صامويل ناد أستاذ التجارة الدولية يعتبر أن أبرز العوامل التي حدت من تدخل السلطات الصينية لدفع العجلة الاقتصادية في الفترة الماضية، كان القلق من أن يؤدي ذلك التدخل إلى انخفاض قيمة اليوان، ما قد يفسر من قبل الإدارة الأمريكية بأن بكين تلجأ إلى التلاعب بعملتها للانتصار في الحرب التجارية الراهنة، وعمليا يعني ذلك اندلاع حرب عملات بين الطرفين، وهو ما تتفاداه السلطات المالية في الصين بقوة.
ويشير ناد، إلى أنه بعد حصول الصين الآن على ما يمكن وصفه بأنه "شهادة إبراء ذمة" من وزير الخزانة الأمريكي بأنها لا تخفض قيمة عملتها الوطنية عمدا، فإن بكين يمكن أن تتدخل عبر "السقوط الحر" لعملتها لتحسين مستوى الأداء الاقتصادي.
ويواصل قائلا، "إن اليوان انخفض بنسبة 10 في المائة خلال الأشهر الستة الماضية، ويمكن أن يواصل الانخفاض أكثر، فإضعاف العملة الصينية لا شك سيصب في مصلحة الاقتصاد الصيني، خاصة أن قمة العشرين التي ستعقد في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وستشهد أول لقاء بعد إطلاق حرب الرسوم بين الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ونظيره الصيني شي جين بينج لن تسفر عن وقف الحرب التجارية الراهنة، ومن ثم على الصين أن تعزز موقفها حتى يتم موعد هذا اللقاء على الأقل".
ويعتقد بعض المختصين أن الولايات المتحدة، على الرغم من الضغوط التجارية التي تمارسها على الصين، لن تكون لها مصلحة حقيقية في إضعاف بكين تماما، ودفع سوق الأسهم خاصة في بورصة شنغهاي إلى حافة الانهيار.
وتشير المؤشرات الرئيسية في الولايات المتحدة، إلى أن سوق الأسهم الأمريكية، ستخسر نحو 5 في المائة من قيمته في غضون 30 يوما، إذا ما انخفضت سوق الأوراق المالية في شنغهاي 10 في المائة، وحتى الآن بلغ معدل الهبوط في إجمالي الأسواق الصينية نحو 12 في المائة في الشهر الجاري.
من جانبه، يرى هارس جورج الاستشاري في شركة "إل. إم" للمضاربة في الأوراق المالية، أن "المستثمرين في الولايات المتحدة يشعرون الآن بأنهم في معزل عن الخسائر في البورصات الصينية، لكن الأسهم الأمريكية تكون في الغالب أضعف عندما تتعرض البورصة الصينية لخسائر كبيرة، فالترابط التجاري بين البلدين والاستثمارات المشتركة من الضخامة بحيث يخرج الجميع من الصراع الاقتصادي خاسرا لكن بدرجات متفاوتة".
وقد تتمتع وجهة النظر تلك بقبول لدى عديد من المختصين، إلا أن حجم الضغوط التي تتعرض لها الصين وتنوعها، يوجد واقعا جديدا يدفع بالسلطات المالية الصينية إلى التراجع عن عديد من أهدافها الاقتصادية التي سبق أن تعهدت بإنجازها، وعلى الأقل قبل وصول ترمب إلى السلطة في الولايات المتحدة. وربما تكون الديون الصينية المتراكمة، التي كان خفضها في مقدمة الأولويات الحكومية، أحد أبرز تلك الأهداف التي تراجعت بشدة حاليا في ظل النمو الاقتصادي المتآكل وهبوط معدلات التجارة الخارجية، والضغوط السعرية التي تواجهها سوق الأسهم.
وبينما يمكن للدائنين في الخارج والداخل الانتظار حتى تلتقط الصين أنفاسها مجددا، فإن سوق الأسهم وما تمر به من تقلبات يعد المعضلة الأولى التي تركز دوائر صنع القرار الاقتصادي أنظارها عليها، خشية وقوع ما لا تحمد عقباه في مقبل الأيام.
©الاقتصادية