لا شك أن التيارات الشعبوية المتصاعدة في أوروبا تمثل قلقا متصاعدا لأولئك الذين لا يرون أوروبا دون اتحادها. وهذه التيارات باتت موجودة في كل بلد أوروبي بلا استثناء، مع بعض التفاوت في القوة هنا وهناك. غير أن القاسم المشترك لها أنها تستقطب مزيدا من المؤيدين لها على خلفية محلية ضيقة جدا. دون أن ننسى، أن شعاراتها تدغدغ مشاعر أولئك الذين يعتقدون أنهم يستطيعون العيش دون علاقات اتحادية مع بقية بلدان أوروبية، بل سيكون وضع بلادهم أفضل خارج هذه الكتلة الضخمة! لكن الأمر ليس كذلك بالطبع، خصوصا بعد أكثر من ستة عقود شهدت تدرجا منطقيا في القارة الأوروبية للوصول إلى الحالة الاتحادية الراهنة. هذه الفترة أوجدت التحاما بين بلدان الاتحاد يصعب التخلص منه، ليس إجرائيا، بل نفسيا.
ورغم كل انتشار بقع الشعبويين على الساحة الأوروبية، إلا أن الاستفتاء البريطاني التاريخي الذي قضى بضرورة خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، لم يتضمن أغلبية ساحقة لأصحاب الخروج. فالفارق ضئيل جدا، بصرف النظر عن تبدل واضح الآن في أوساط هؤلاء نحو البقاء ضمن هذا الاتحاد، بعد أن ظهرت الحقائق على الأرض، بما في ذلك تكاليف الخروج، والأضرار التي ستتعرض لها بريطانيا لاحقا. المؤكد أن المفوضية الأوروبية تمسكت بالخط المتشدد في المفاوضات مع المملكة المتحدة، ليس رغبة في بقائها، بل تهديدا غير مباشر لأي دولة تفكر في الانسحاب من الاتحاد. وهذا ما يحدث بالفعل على الساحة الآن، في ظل إخفاق تلو الآخر بين لندن وبروكسل للوصول إلى اتفاق يرضي الطرفين.
بعد أزمة ديون اليونان وإسبانيا والبرتغال وإيرلندا، كثر الحديث عن احتمال تفكك الاتحاد الأوروبي. بل إن دولا من بلدان أوروبا الشرقية أشارت بدرجات متفاوتة إلى رغبتها في الانفصال، رغم أنها في حاجة إلى الاتحاد أكثر من كون الاتحاد في حاجة إليها. فالتيارات الشعبوية، خصوصا في أوقات الانتخابات، لا ترى أفضل من إثارة مشاعر الوطنية الضيقة، لتحقيق بعض المكاسب الشعبية. لكنها لم تصل إلى مستوى يمكنها بالفعل أن تحدث تغييرا حقيقيا على صعيد الرؤية حيال الاتحاد الأوروبي. بعض الحملات الشعبوية تحولت مع الوقت إلى حملات صوتية أكثر منها مؤثرة أو تغييرية. ومع الحقائق التي ظهرت للجميع في المفاوضات البريطانية - الأوروبية، صار الناخب يعرف أن الخسائر ستكون أكثر من المكاسب.
لا توجد مؤشرات قوية على أن الاتحاد الأوروبي في طريقه إلى التفكك. فالدولتان الأكبر في القارة الأوروبية لن تسمحا بذلك، بصرف النظر عن أصوات لا قيمة حقيقية لها ضد الاتحاد. لا شك أن الاتحاد يقف على منعطف تاريخي، إلا أن ذلك لا يعني أنه في طريقه إلى التفكك، خصوصا مع اقتناع جميع القادة الأوروبيين على ضرورة إجراء إصلاحات هيكلية وتنظيمية ضمن هذه الكتلة الضخمة. المسألة البريطانية هزت هذا الاتحاد بالفعل، إلا أن الجانب البريطاني نفسه بدأ بالاعتراف أنه لا يمكن أن يعاند كثيرا المفوضية الأوروبية، إلى درجة أن أعلن مسؤولون كبار في الحكومة، أنهم سيطبقون بعض قوانين الاتحاد في التجارة وغيرها، حتى لو خرجت بريطانيا من دون اتفاق. ما يعزز حقيقة أن دولة "مهما بلغ شأنها" لا يمكنها أن تعيش في عزلة عن محيطها، فكيف والحاجة بين دول أوروبية تتفق أن لها مصيرا واحدا.
©الاقتصادية