رئيس التحرير: طلعت علوي

غاندي ومغزل الصوف ... فلسطين والزراعة البيئية

الأحد | 02/09/2018 - 09:44 صباحاً
غاندي ومغزل الصوف ... فلسطين والزراعة البيئية

سعد داغر

تحقق استقلال الهند حين ترافقت العملية الكفاحية للهنود ضد الاستعمار البريطاني، بما توفرت لدى المهاتما غاندي، من رؤية ثاقبة وثابتة، تتوجت في نهاية الأمر باندحار الاستعمار الإنجليزي عن الأراضي الهندية، إنها فلسفة الصغير، الذي يشكل الكبير ـ الأعمال الصغيرة، التي تحقق الهدف الكبير، هدف التحرر. لكن ما هي هذه الفلسفة وما هو ذاك الصغير الذي أدى لنيل الحرية؟

كان مغزل الصوف، هو ذاك الصغير الذي قامت عليه كل فلسفة التحرير لدى غاندي والذي خلخل أسس الإستعمار البريطاني للهند وقاد في النهاية لنيل الحرية، ولم يكن مغزل الصوف بذاته هو السلاح، بل فلسفة ما وراء استعماله، هي ما قاد للاستقلال. تقوم هذه الفلسفة على أساس أن كل كبير ما هو إلا مجموع أجزاء صغيرة كثيرة مترابطة، يجب الاهتمام بها بكل تفاصيلها، فقوة الأجزاء الصغيرة تزيد من قوة الكل الكبير.
مغزل الصوف عبارة عن ثلاثة قطع من الخشب، يستطيع أن يعمله أي شخص بسيط، وهذا أول سر من أسرار قوته: سهل التطبيق ويمكن للجميع عمله وكل المواد اللازمة له موجودة في المكان - فقط بعض قطع من خشب. أما ما يحتاجه ليعمل، فبعض صوفٍ من غنم، وهذا أيضاً متوفر محلياً.
كان لدى غاندي عنزته، التي تعطيه الحليب ليتغذى عليه، ولجأ لسيدةٍ هندية مسنة، كانت ما زالت تعرف كيف تحول صوف تلك العنزة إلى خيوط يحيك منها ثيابه، بواسطة مغزل يستطيع بنفسه "تصنيعه"، دون الحاجة لمصانع ولا طاقة ولا تكنولوجيا يتحكم بها كلها الاستعمار الإنجليزي.
لقد كانت قوة الفلسفة والتطبيق تكمن في أمرين اثنين، الأول: البساطة، حيث يستطيع أي واحد صنع مغزل صوف ويتعلم بسهولة كيفية العمل على هذه الأداة، التي كل ما تحتاجه لتصنعها ولتبدأ عملها متوفر محلياً وفي متناول يد كل إنسان بسيط. والثاني: قابلية التكرار من قبل الجموع الهندية الفقيرة والغنية على حد سواء، فما أن تعلم غاندي كيفية عمل واستعمال هذه الأداة، حتى بدأت جموع الهنود بتكرار ما يعمل، لأنها تستطيع عمل المغزل ولديها الغنم لإنتاج الصوف.
لقد جعلت هذه الفلسفة كل هندي مدركاً لأهمية وقوة ما يملكه من مصادر محلية يمكن تحويلها لأدوات للاعتماد على الذات والتخلص من الاعتماد على قوة الاستعمار. لقد أيقظت هذه الفلسفة وهذه السياسة لدى الهنود القدرة على إدراك أهمية ما هو صغير حين يتحول إلى أحد الأسس التي يُبنى عليها تحقيق الأهداف الكبرى، المتمثلة في دحر الاستعمار ونيل الحرية، كما أدت إلى إدراك قوة دور الفرد وأعماله الصغيرة، التي تقودها روح الجماعة في تحقيق الغايات الكبرى.
وإلى جانب مغزل الصوف، كانت سياسة كسر احتكار الملح، الذي كانت تنتجه المصانع البريطانية ويباع في الهند، دون أن يُسمح للهنود بإنتاج الملح بأنفسهم، فكانت مسيرة غاندي نحو البحر، حتى وصل شواطئه، ليحفر في الرمل حفرة صغيرة ويضع فيها قطعة القماش التي يلفها على كتفه، ثم بدأ ينقل الماء في يديه من مياه المحيط ويصبه فوق قطعة القماش، في الحفرة الرملية، والناس والصحافة تنظر إليه باستغراب، ثم جلس بعض الوقت لتجف قطعة القماش، وحين جفت قام وحركها فتجمع الملح الذي كان في ماء البحر في وسط قطعة القماش، وقال: هذا هو الملح ننتجه بأنفسنا وبلا مصانع. بعد أسبوع كان على تلك الشواطئ ثلاثة آلاف هندي ينتجون الملح بهذه الطريقة، فكُسر قانون الملح الاستعماري. مجموع الأفراد شَكَّلَ قوة الفعل.
حسب الإحصاء الفلسطيني فإن نحو 80% من الحيازات الزراعية هي حيازات صغيرة، مساحتها أقل من عشر دونمات، وفيما يرى البعض أن الحيازات الصغيرة هي معيق أمام التطور في الإنتاج الزراعي، نرى الأمر عكس ذلك تماماً، فهذه الحيازات الصغيرة، إذا ما تحولت إلى حيازات إنتاجية تصبح في مجموعها كبيرة جداً، يمكنها أن توفر الغذاء لأصحابها وللآخرين. الحيازات الصغيرة تعطي فرصة لكل صاحب حيازة أن يعمل فيها هو وأسرته، لينتج ما يحتاج. ويبقى السؤال: أي طريق للإنتاج نحتاج لنسلكه، ولماذا؟
إن مجموع الحيازات الصغيرة، يمكن لها أن تتحول إلى قوة إنتاج هائلة إذا ما تم استغلالها بنفس فلسفة أن الكبير ما هو إلا مجموع الأجزاء الصغيرة، لكن ليكون الكبير قوياً، يجب أن تتمتع الأجزاء الصغيرة بالقوة، فكيف تكون الحيازات الزراعية الصغيرة قوية؟
تصبح الحيازات الزراعية الصغيرة قوية إذا اعتمدنا في طريقة إنتاجها على مبدأ "الاعتماد على الذات"، فكل ما نحتاجه للإنتاج يجب أن يكون مما يتوفر محلياً وفقط من هذا المحلي. ونبدأ برفع خصوبة التربة وإعادة الحياة لها، ثم بالالتفات إلى المصدر المائي المجاني والهائل المتوفر لنا - الأمطار، التي لا يستطيع أحد أو استعمار أن يمنعها من الهطول على أرضنا، لنحولها إلى تربتنا ونحفظها داخل التربة لأطول فترة زمنية ممكنة خلال العام، للاستفادة منها في الإنتاج.
رفع خصوبة التربة ممكن وبسهولة من خلال الإدارة الصحيحة للمخلفات الزراعية، فوحدها مخلفات المحاصيل الزراعية تصل إلى نحو مليون طن سنوياً، يجري التخلص من معظمها عن طريق الحرق أو رميها على أطراف الحقول أو في الأودية القريبة. وإذا ما أضفنا لذلك المخلفات الحيوانية، ندرك حجم الثروة الهائلة الممكن استعمالها في تخصيب التربة. وفي حال عدم توفر هذا أو ذاك، فإن استمرار زراعة البقوليات وتركها للتربة، يمكن أن تؤدي الدور المطلوب في حفظ وزيادة خصوبة التربة.
مخلفات المحاصيل الزراعية والمحاصيل البقولية يمكن استعمالها لعمل غطاء للتربة يقلل تبخر المياه، سواء كانت مياه الأمطار أو مياه الري الآتية من مصادر مختلفة، إلى جانب استعمال تلك المخلفات لتحسين خصوبة التربة.
تبقى مسألة البذور وهي أيضاً قابلة للحلّ حين نبدأ بالاعتماد على بذور يمكن إعادة إنتاجها محلياً، عن طريق الفلاحين أنفسهم.
وإذا ما اعتمدنا الأسس الصحيحة في الزراعة تصبح الكثير من مشاكل الآفات محلولة، من خلال تنويع الزراعة في المزرعة نفسها، ورفع خصوبة التربة التي تؤدي إلى تحسين قدرة النبات على مواجهة الآفات، واعتماد بذور بلدية متكيفة مع الظروف المحلية بما فيها وجود الآفات.
كل هذه الممارسات الصغيرة تشكل أسس الزراعة البيئية بمفهومها الكبير، وحين تحاك خيوطها معاً تشكل قوة القطاع الزراعي، تماماً كما أنتجت العنزة الحليب والصوف الذي تحول في أيدي الهنود لأداة تحرر. الزراعة البيئية هي أداة تحرر للفلسطيني كما مغزل الصوف للهندي.

مركز العمل التنموي/ معا

التعليـــقات