أنطوني آنيت
يواجه النموذج الاقتصادي السائد أزمة تتعلق بالشرعية. وثمة أبعاد عديدة لهذا الفشل، تزايد عدم المساواة وانعدام الأمن الاقتصادي، الذكريات المؤلمة التي خلفتها الأزمة المالية العالمية، والحصانة التي يتمتع بها المتسببون فيها، ونمط العولمة الذي ينظر إليه على أنه يعود بالنفع الأكبر على الشركات الكبيرة والنخبة المالية. ويخيم على ذلك كله شبح تغير المناخ. وجميع هذه الأخطاء تؤدي إلى زعزعة الثقة بالمؤسسات المحلية والعالمية، وتثير في بعض الأحيان ردود فعل سلبية في صورة انعزالية ونزعة إلى التطرف. ونجد في أهداف التنمية المستدامة الـ17 التي أقرها 193 بلدا في عام 2015 تحت رعاية الأمم المتحدة استجابة لهذه التحديات. وتقوم هذه الأهداف على فكرة مفادها أن التقدم الاقتصادي لم يعد بالإمكان تقييمه دون مراعاة الاحتواء الاجتماعي والاستدامة البيئية. وتنطوي هذه الفكرة على فكرة أخرى، وهي أن الأسواق وحدها لا يمكنها حل هذه المشكلات التي تتطلب تعاون جميع البلدان على المستوى العالمي، والشركاء الاجتماعيين على المستوى المحلي. ويتطلب هذا التحول بدوره إعادة التفكير بشكل جاد في الأسس الأخلاقية للاقتصاد الحديث. غير أن هذا الاستنتاج قد يبدو مستغربا. فقد تطور الاقتصاد الكلاسيكي الحديث في نهاية المطاف على نحو أدى إلى التمييز الحاد بين الإيجابي والمعياري، وبين الحقائق والقيم.
ولكن من المستحيل بأي حال من الأحوال استبعاد القيم من المناقشات حول الاقتصاد. ويقترح علم الاقتصاد بالفعل إجابات عن المسائل المهمة التي تثيرها الفلسفة الأخلاقية، فيما يتصل بالطبيعة البشرية، والغرض أو الهدف من الحياة، والسلوك الصحيح في مختلف الظروف. غير أنني أعتقد أن هذه الإجابات غير كافية. فالإطار الأخلاقي للاقتصاد الكلاسيكي الحديث يتركز حول المفهوم الذي تحركه المصلحة الشخصية "الإنسان الاقتصادي" نحو البحث عن تعظيم أفضلياته المادية الذاتية، وهو أمر يبدو سهل التحقيق "وفق افتراضات تقيدية للغاية" بفضل الأسواق التنافسية. ولكن هل الإنسان الاقتصادي يعد انعكاسا دقيقا للطبيعة البشرية؟ فالإجابة بالنفي وفقا لآخر الشواهد المستمدة من علم النفس وعلم الأعصاب وعلم الأحياء التطوري. فعالم الأحياء إدوارد ويلسون في جامعة هارفارد، يرى على سبيل المثال أن قوى التطور تعني أن الأشخاص الأنانيين ينتصرون على الإيثاريين داخل المجموعات، ولكن مجموعات الإيثاريين تنتصر على مجموعات الأنانيين. وإذا صح ذلك، فإن الإنسان ميال للتعاون والالتزام بالمعايير الأخلاقية. ولكن ذلك يعني أيضا وجود ميل طبيعي نحو تفضيل أعضاء المجموعة الواحدة وتشويه الخارجين عنها. ومن هذا المنظور، أرى أن معظم الأطر الأخلاقية "العلمانية والدينية" تشترك في الهدف نفسه، ألا وهو تشجيع الناس على تبني الخصال الاجتماعية وكبح الخصال الأنانية والعدوانية. ولكن الاقتصاد الكلاسيكي الحديث يعد استثناء. فهو يشجع على الأنانية ويعلي المساعي المادية ويتجاهل الأخلاق، وتعد التفضيلات في نهاية المطاف ملكية فردية وذاتية ولا يمكن إخضاعها بأي حال من الأحوال للدراسة والتدقيق. ولا يقتصر الأمر على نفي أهمية الفضيلة، بل إن ما اعتبرته الأعراف قديما من الرذائل أصبح ينظر إليه الآن على أنه أمر نافع.
وهذا هو الأساس الذي تستند إليه فكرة آدم سميث الشهيرة التي تدعي أن الاهتمام بالمصلحة الذاتية، وليس الإيثار، هو ما يخدم الصالح العام "وكان سميث أكثر دقة في مناقشة هذه المسألة مقارنة بأقرانه". ويجب أن يبدأ تقييمنا النقدي للاقتصاد الكلاسيكي الحديث بأن نسأل أنفسنا عن ماهية القيم التي يؤمن بها الإنسان. وإحدى الإجابات الجلية عن هذا السؤال هي السعادة. ولكن مفهوم السعادة يختلف باختلاف الأعراف والتقاليد. فالمذهب النفعي يرى من منظور اللذة أن السعادة هي تعظيم المتعة وتقليل الألم قدر الإمكان، ويقوم الاقتصاد الكلاسيكي الحديث في جزء كبير منه على هذا الفكر.
أما منهج أرسطو، فيعتمد على مفهوم أعمق للازدهار الإنساني الذي يعني عيش الحياة بشكل كامل وفق القيم الجوهرية التي يؤمن بها الإنسان، وتكوين علاقات مفيدة ووجود غرض من الحياة والمساهمة في المجتمع. وبالنسبة لأرسطو، يستلزم ذلك غرس الفضيلة، وهو ما يمكن فهمه على أنه تحقيق الإمكانات حيث يتحول الفرد مما هو عليه الآن إلى ما يستطيع أن يكونه إذا ما تمكن من تحقيق طبيعته الجوهرية، ويرتبط ذلك ارتباطا وثيقا بمنهج القدرات الذي وضعه أمارتيا سن ومارثا نوسباوم، الذي يؤكد فكرة اكتشاف القدرات، أي قدرة أي شخص على أن يفعل أو يكون ما يحب أن يفعله أو يكونه. أهمية العلاقات يؤيد علم النفس الحديث هذه الأفكار. فعلى سبيل المثال، تشير دراسات الرفاهية الذاتية إلى أهمية العلاقات والأهداف من أجل الرفاهية، مؤكدة أن النقود لا تشتري السعادة بعد حد معين. ويشير تقرير السعادة العالمية الذي يصدر سنويا إلى أن البلدان الأكثر سعادة ليست الأغنى فقط، ولكنها أيضا البلدان التي تزداد فيها مستويات الدعم الاجتماعي ومستويات الثقة والكرم والقدرة على إطلاق القدرات بعيدا عن أي معوقات "بما في ذلك الفساد". وثمة دراسات عديدة تشير أيضا إلى أن الإنسان لديه ميول اجتماعية، كالإيثار والعدل. وعلى سبيل المثال، تشير آخر النتائج المستمدة من دراسات الاقتصاد السلوكي إلى أن الناس يميلون إلى التعاون والمشاركة وإعلاء قيمة الثقة، وإلى معاقبة الغش والانتهازية من ناحية أخرى، حتى ولو تحملوا تكلفة مالية في سبيل ذلك... يتبع.