رئيس التحرير: طلعت علوي

ضعف القدرة الشرائية لا يطيح بالضرورة بالأسعار

الإثنين | 12/06/2017 - 11:13 صباحاً
ضعف القدرة الشرائية لا يطيح بالضرورة بالأسعار


د. صالح السلطان


من المهم أن أنبه على أن المقال حيادي علمي يبحث فيما هو كائن وما يتوقع أنه سيكون بناء على معطيات وليس رغبات. والتوقعات طبعا بمشيئة الله وتستند إلى مبادئ اقتصادية خلقها الله. ويخطئ كثير من الناس حينما يفهمون أن هذا المنهج يعكس بالضرورة الرغبات. وهنا مثال لتسهيل الفهم. لو وقعت عاصفة شديدة، وقال قائل إنها ستتلف أكثر الخضراوات المزروعة، ومن ثم سيقل العرض، وتبعا لذلك متوقع أن يرتفع سعر الخضراوات. هذا الكلام لا يعني أن القائل يتمنى التلف أو الغلاء.
مقصود عنوان المقال أن كون قدرة الغالبية لا تسمح لهم بشراء سلعة لا تقل أوصافها عن كذا، ليس بلازم أن يؤدي إلى أن تطيح أسعار هذه السلعة. وليست الدول سواء، فلدينا تملك المساكن مثال واضح، ولذا سأركز عليه في المقال. ولدى بعض الدول سلع كثيرة تملكها ليس في متناول الغالبية. ولو كان الأمر بلزوم أن تطيح الأسعار لما اختلفت الدول والشعوب في مستوى المعيشة.

السؤال كيف أو لماذا؟
يبين التحليل الاقتصادي الجزئي المتعمق أن تأثر الأسعار بالقدرة الشرائية أي الطلب يعتمد على طبيعة السلعة وتكاليفها على المنتجين وتكاليفها على المشترين، ومدى المرونة في تغير هذه التكاليف. وقلت المتعمق، لأن الساحة تمتلئ بكتابات سطحية بضاعتها في النظرية الاقتصادية والتحليل الاقتصادي مزجاة.

ما معنى مدى المرونة في تغير التكاليف؟
من الحقائق أو القوانين الاقتصادية مبدأ "التكاليف لعمل أو إنتاج الوحدة الواحدة عادة تتصاعد مع تصاعد الإنتاج أو زيادة حجم الاقتصاد". ما السبب باختصار؟ زيادة الإنتاج أي نمو الاقتصاد تعني مزيد توظيف أو تشغيل لعوامل من أرض ويد عاملة ومواد وخلافها. وزيادة التشغيل لعوامل الإنتاج تعني زيادة الطلب عليها فترتفع أسعارها، وتبعا لذلك تزيد الدخول والإنفاق، فترتفع الأسعار. لكن لو انخفض الناتج المحلي، فإن أسعار السلع عادة لا تنزل إلى سابق عهدها. لأن الذي يحصل عادة خفض في بعض التكاليف وحجم الإنتاج وتسريح موظفين وتدهور في مستوى المعيشة ونحو ذلك. ولو كانت دعوى نزول الأسعار دوما لتتناسب مع نزول الدخل لتقاربت الدول في مستوى المعيشة.

ماذا بشأن نمو المدن؟
القانون الاقتصادي أن التكاليف تزيد مع زيادة حجم الاقتصاد ينطبق على المدن حيث تزيد تكاليف العيش فيها مع زيادة حجم المدن. وفي هذا ظهر تخصص اقتصادي يعني بدراسة التكتل economics of agglomeration والمقصود عادة اقتصاد التوسع الحضري كتوسع المدن.
وقد عملت دراسات كثيرة عن العلاقة بين أسعار الأراضي وعمليات التحضر وتوسع المدن. من أوسعها دراسة أعدتها مجموعة من أساتذة الاقتصاد في جامعات ألمانية نشرت عام 2014، وعنوانها "لا سعر كالبيت: أسعار المساكن عالميا 1870 - 2012". وهي متاحة على النت باللغة الإنجليزية:


No Price Like Home: Global House Prices, 1870–2012
رصدت الدراسة تغيرات أسعار المساكن السنوية في 14 اقتصادا، خلال الفترة 1870 – 2012. وتوصلت إلى ثبوت نسبي في أسعار المساكن خلال 100 عام تقريبا، ثم أخذت في الارتفاع الحاد خلال العقود الخمسة الأخيرة. وتركز الارتفاع في أسعار الأراضي، وليس في تكلفة البناء.
وهناك دراسة واسعة أخرى لعدة أساتذة اقتصاد أجريت عام 2011:The Costs of Agglomeration: Land Prices in French Cities "تكاليف التكتل: أسعار الأراضي في المدن الفرنسية". وقد حاول المؤلفون تطوير طريقة لتقدير مدى علاقة ومرونة تكلفة التحضر أي السكن في المدينة وما يجره من ارتفاع أسعار العقار، مقارنة بعدد سكان المدن، أي مدى تأثر التكلفة بعدد سكان المدن. وأساس الفكرة أن الأسعار والتكاليف تزيد مع زيادة عدد السكان في المدينة.
مما توصلت إليه الدراسة أن نسبة ارتفاع أسعار الأراضي أقل من نسبة ارتفاع الأجور في المدن الصغيرة، ولكنه أعلى كثيرا من نسبة ارتفاع الأجور في المدن الكبيرة.
تزايد التحضر أي انتقال الناس من السكن في القرى والمزارع إلى السكن في المدن، يعني إيجاد أو صناعة تزاحم بين البشر على المكان والخدمات والمرافق. والتزاحم يزيد من تكاليف توفيرها، ويرفع أسعار الأراضي أكثر من معدلات التضخم.


لو افترضنا ــ مجرد افتراض ــ أن أسعار الأراضي في الرياض رجعت إلى مستواها قبل 10 إلى 15 عاما. ماذا سيحصل؟ سيعجز العرض عن تلبية الطلب الذي ستصنعه الأسعار الجديدة. لماذا؟ سيتسارع أهل الدثور إلى اغتنام الفرصة قبل غيرهم، وقد حدث ذلك من قبل. كما أن من كان، مثلا، قادرا ومخططا لشراء 300 م2 بأسعار الآن سيفكر بشراء ألف م2 بالأسعار الجديدة، وهكذا. بالمقابل، نعرف أن الزحام في الرياض زاد بشدة خلال السنوات العشر الماضية. فهل شوارع ومرافق الرياض قادرة على استيعاب ضعف الزحام الحالي خلال سنوات قليلة؟ ما الحلول البديلة؟ موضوعات تستحق بحثا جادا.


هل يعني ما سبق أننا لا نعاني مشكلة احتكار في الأراضي؟ هناك كلام كثير عن عروض كثيرة من بائعين كثيرين، وهذا يضعف حجة من يقولون بوجود احتكار. لكن لا ننسى أن لدينا أراضي فضاء كثيرة داخل الأحياء المخدومة التي وصلها العمران، وجزء كبير منها حكومي. هناك أراض فضاء مهملة، مثلا، أجزاء من مطار الملك خالد لا حاجة إلى المطار لها. الكلام نفسه ينطبق على جهات أخرى كموقع جامعة الأميرة نورة الحالي أو السابق على تقاطع "مخرج 9" من الدائري الشرقي في الرياض. يفترض أن تراجع حاجة الجهات الحكومية إلى أراضيها ليتم التصرف بما زاد على الحاجة. كما يفترض تطبيق إجراءات على الأراضي البيضاء داخل الأحياء المخدومة التي وصلها العمران. إجراءات تدفع الملاك بما ينتهي إلى تطوير تلك الأراضي بدلا من بقائها بيضاء. والموضوع طويل

التعليـــقات