رئيس التحرير: طلعت علوي

«فيسبوك» يسعى جاهدا للتخلص من وصمة الأخبار الكاذبة

الأحد | 07/05/2017 - 06:24 صباحاً
«فيسبوك» يسعى جاهدا للتخلص من وصمة الأخبار الكاذبة

تقع شركة كوريكتيف Correctiv في الطابق الأول من نزل للمتنزهين مطلي بألوان زاهية في وسط برلين، وهي شركة ناشئة إعلامية صغيرة غير ربحية تضطلع بمهمة كبيرة: المساعدة في إنقاذ "فيسبوك" من وباء الأخبار المزيفة.
ديفيد شرافين، رئيس التحرير ومالك الشركة، رجل ملتح وصحافي جريء سابقا، كان رئيسا لقسم التحقيقات في "فونكه ميدين جروبه"، ثالث أكبر شركة نشر إعلامية في ألمانيا. كانت خلفيته في التحقيقات المتعلقة بالنازيين الجدد والإرهاب المخفي، وليس التكنولوجيا أو شبكات التواصل الاجتماعي. يقول "لم أكن أكترث قط من قبل بـ "فيسبوك" أو علاقته بوسائل الإعلام".


لكن موقفه تغير بعد مشاهدة أثر الأخبار الوهمية في الإنترنت، التي بُثت أثناء الحملات التي سبقت الاستفتاء حول عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي وانتخابات الرئاسة الأمريكية. وبدأ يشعر بالقلق من أن "القوى المخربة" التي تعمد إلى نشر الأخبار الوهمية يمكن أن تؤثر في الانتخابات الوطنية في ألمانيا، المرتقبة في أيلول (سبتمبر) المقبل، عندما تترشح المستشارة أنجيلا ميركل لفترة رئاسية رابعة.
أثناء جلوسه في مكتبه في شركة كوريكتيف الممتلئ بقطع الزينة الصغيرة الجميلة، يتفحص شرافين وقائع موضوع انتشر سريعا حول اللاجئين الذين يُزعَم أنهم اغتصبوا امرأة ألمانية وألقوا بها من نافذة سيارة كانوا يستغلونها. وتم نشر هذا الموضوع أصلا عبر موقع إلكتروني أطلق عليه اسم "اللاجئون المغتصِبون".


في الآونة الأخيرة أصبحت مثل هذه القصص أكثر شيوعا في ألمانيا، حيث لا تزال سياسة الذراعين المفتوحتين التي تنتهجها ميركل تجاه اللاجئين السوريين - جزءا من أكثر من مليون لاجئ استقبلتهم البلاد منذ عام 2015 - قضية سياسية مثيرة للفُرقة. يقول شرافين "بدأ الناس يقولون، نحن بحاجة إلى إخراج هؤلاء اللاجئين، نريد بلدا نظيفا. شهدتُ تغيرا في المزاج العام في بلدتي بسبب تلك المواضيع المنتشرة في الأخبار. أعتقد أن الأخبار المزيفة يمكن أن يكون لها تأثير كبير في الانتخابات الألمانية".
بعد أن تبين بشكل قاطع أن قصة اللاجئين كاذبة، نشرها عبر "فيسبوك"، وبعد ذلك أخطر مستخدميه أنها موضع تشكيك من قبل مدققي الحقائق.
تدقيق الحقائق في كوريكتيف مجرد جزء واحد من الاستجابة المتطورة لـ "فيسبوك" على سلسلة من القضايا المثيرة للجدل التي هزت الشركة على مدى العام الماضي. فقد اتُّهمت مجموعة وسائل التواصل الاجتماعي بالتأثير في الانتخابات الأمريكية التي جرت في تشرين الثاني (نوفمبر) من خلال نشر الأخبار المزيفة وإيجاد "فقاعات تصفية" تعزل الناخبين عن الآراء الأخرى.
كذلك تم انتقاد منصة الفيديو الخاصة بـ "فيسبوك" بعد بعض الأحداث المروعة، بما في ذلك فيديو خاص بجريمة قتل في أوهايو بقي منشورا لساعتين بعد الإشارة إليه من قبل مستخدمين، وتسجيل لرجل تايلاندي يقتل ابنته احتاج إلى 24 ساعة لتتم إزالته.
أثارت الضجة تساؤلات أعمق حول طبيعة "فيسبوك" ومسؤولياته الاجتماعية. خلال فترة حياته البالغة 13 عاما، وصل فيها عدد مستخدمية إلى 1.9 مليار شخص واستحوذ على حصة كبيرة من سوق الإعلانات الرقمية، تحتفظ المجموعة بمكانتها منصة تكنولوجيا محايدة ذات مسؤولية محدودة جدا بخصوص المحتوى الذي تنشره. وهي تقول "إن الالتزام الاجتماعي الوحيد هو أن تكون ممرا يتم من خلاله الربط بين الناس".


لكن خلال العام الماضي كان من الصعب على الشركة مواصلة تلك الحجة.
بعد أن اشتكى الرئيس باراك أوباما من "سحابة الغمام من الكلام الفارغ" التي تحوم فوق شبكة التواصل الاجتماعي قبل الانتخابات الأمريكية، بدا أن مارك زوكربيرج، مؤسس "فيسبوك" والرئيس التنفيذي، يقلل من شأن قدرة الموقع على التأثير في السياسة. قال "إن من الجنون تماما القول إن مقالات الأخبار المزيفة المنشورة على الموقع قبيل الانتخابات، مثل المقال الذي يقول إن البابا فرانسيس تبنى ترشيح دونالد ترمب، كان لها تأثير في النتائج".
موقفه اجتذب عددا من الانتقادات، بما في ذلك من داخل مقر المجموعة في وادي السيليكون، الأمر الذي جعل زوكربيرج يعيد النظر في موقفه. ومن ثم أطلق "فيسبوك" عددا من المبادرات، بما في ذلك الشراكة مع شركات تدقيق الحقائق مثل كوريكتيف، لمحاولة لإيقاف انتشار الأخبار المزيفة على الموقع. وفي شباط (فبراير) الماضي أرسى دعائم رؤية للشركة نشرها في مقال يقع في 5700 كلمة، اعترف فيها بمسؤوليات وتأثير "فيسبوك" بطريقة لم تظهر من قبل قط. وتعهد البيان الرسمي بالتصدي لما اعتبره "مجتمعا عالميا مفككا".


لكن يقول النقاد "إن الشركة لم تبذل جهودا كافية للاعتراف بحقيقة بسيطة: وهي أنها شركة إعلام. ويقولون إن على "فيسبوك"، باعتباره أكبر موقع لنشر الأخبار في العالم، تبني معايير تحرير تعكس قوة المجموعة".
فيليب هوارد، أستاذ دراسات الإنترنت ومدير البحوث في معهد أكسفورد للإنترنت، يقول "لفترة زمنية طويلة كانت الشركة تقاوم بكل نشاط على أن تُعتبَر منظمة إعلامية، لأن ذلك يتضمن إمكانية خضوعها للقوانين التنظيمية التي تحكم عمل وسائل الإعلام، واعتبارها منظمة يُتوقع منها توليد أشياء للمصلحة العامة. أعتقد أنها يجب أن تخضع للتدقيق العام ويجب عليها اتخاذ نوع من الدور التحريري".

الحقيقة في الإعلانات

يبحث الساسة والمنظمون الأوروبيون عن كثب في الطريقة التي يعمل بها "فيسبوك". في كانون الأول (يناير) الماضي، قال أندروس آنسيب، المفوض الأوروبي الذي يترأس محفظة وسائل الإعلام الرقمية، لـ "فاينانشيال تايمز"، "إن الأحداث الأخيرة يمكن أن تشكل نقطة تحول بالنسبة إلى المنصات الإلكترونية التي تعرضت لخطر فقدان الثقة ما لم تضطلع بمسؤولية أكبر".
وأضاف "أشعر بالقلق، كما يشعر الجميع، إزاء الأخبار المزيفة، خاصة بعد الانتخابات التي أجريت في الولايات المتحدة. أؤمن في الواقع بتدابير التنظيم الذاتي، لكن إذا كانت هناك حاجة إلى بعض التوضيحات، حينها سنكون مستعدين لذلك".
ظل "فيسبوك" يقاوم الدعوات لتوظيف مدير تحرير، أو اتخاذ خطوات أخرى من شأنها أن تجعله منظمة أخبار تقليدية بشكل أكبر. بدلا من ذلك، يلجأ إلى تعديل التكنولوجيا لديه لإيقاف نشر المعلومات المغلوطة، وتقديم الأموال لمدققي الوقائع لضمان التأكد من صحة المواضيع المنشورة عبر المنصة.
آدم موسيري، رئيس شعبة الأخبار في "فيسبوك"، أبلغ "فاينانشيال تايمز" الشهر الماضي "إن العلاقة التجارية أمر مطروح ونحن مستعدون تماما لها. قد يعتمد الأمر على الأفراد، لكننا نرغب في الانخراط بشكل مسؤول، وإذا كان ذلك يعني ترتيبا ماليا، فنحن على استعداد كبير لذلك".


في الأسابيع التي تلت الانتخابات الأمريكية، بدا أن المجموعة أخذت تضطلع بمزيد من المسؤولية عن دورها في تشكيل أجندة الأخبار. فقد بدأت العمل مع شركات تدقيق الحقائق الأمريكية، مثل سنوبس وبوليتيفاكت، التي توسعت في وقت لاحق لتصل إلى ألمانيا وفرنسا، وعملت مع صحيفة "لو موند" وغيرها من وسائل الإعلام المحلية، قبل انتخابات وطنية في البلدين. وقد بدأت شراكة شرافين مع "فيسبوك" ألمانيا في آذار (مارس)، عندما شرع فريق كوريكتيف في البحث والتقصي من خلال نظام جديد لتدقيق الحقائق.
يبدأ نظام كوريكتيف بالمستخدمين الذين يبلغون بأن موضوعا ما كاذب. بمجرد أن تتم الإشارة إليه، يظهر على قائمة الارتباطات الخاصة بـ "كوريكتيف" من أجل التدقيق فيه. ويجري تصنيف كل قصة وترتيبها بحسب درجة الشعبية التي تحظى بها عبر "فيسبوك"، وهو مقياس يبين عدد القرارات المتخذة والتعليقات والمشاركات أو درجات الإعجاب التي تحصل عليها كل قصة لمساعدة المدققين على تحديد أولويات عملهم. كل موضوع تم تفحصه يُعطى علامة تشهد على صحته. إذا كان مزيفا يجري إدراج رابط لنسخة بديلة حقيقية.


يقول شرافين "لا يزال يمكنك قراءة كلتا النسختين من الموضوع، لكن عندما تريد مشاركته - وهذا هو أهم ما في الأمر - سيظهر لك تحذير بأن مدققي الحقائق المستقلين لا يعتقدون أنه موثوق".
تلك الجهود، جنبا إلى جنب مع رسالة زوكربيرج، هي علامة على جهد بذله "فيسبوك" لإيقاف تمرد محتمل من قبل المستخدمين، أو انتفاضة من قبل المشرعين، مثل الموجودين في ألمانيا ممن يسعون إلى فرض غرامات على الأخبار المزيفة.
يقول ديفيد كيركباتريك، مؤلف كتاب "مفعول فيسبوك"، "لا يمكن بأي حال أن يكون زوكربيرج أحمق، لكنه مدرك أن من الممكن أن يأخذ الناس بالنظر إليه على أنه كذلك، وبالتالي فهو يريد إجهاض هذا الأمر قبل وقوعه".
لكن كلما أصبحت الشركة أكثر انخراطا في مراقبة المحتوى الموجود على خدماتها، تزيد المخاطر من إثارة استياء المستخدمين أو المعلنين المحتملين.
يقول البروفيسور هوارد "لم يعترف أي أحد في "فيسبوك" قط بأنه شركة إعلامية، لأن هذا سيكون له تأثير في كيفية التعامل معهم من قبل القانون الأمريكي. إن تم اعتبارها شركة إعلامية وتحصل على المال مقابل طرح الإعلانات، حينها ستكون الشركة مسؤولة عن تحري الحقيقة في تلك الإعلانات وعليها تخصيص ميزانية لإعلانات الخدمات العامة، كما تفعل جميع شركات الإعلام الأخرى".
مع وصول أرباح الشركة إلى عشرة مليارات دولار العام الماضي وارتفاع سعر سهمها 30 في المائة، لم يكن للقضايا الأخيرة المثيرة للجدل تأثير يذكر في ثقة المستثمرين. يقول بريان ويسير، المحلل لدى شركة بيوفوتال للبحوث "المستثمرون ليسوا بالضرورة نقادا اجتماعيين".


ويمضي مستخدمو "فيسبوك" ما متوسطه 50 دقيقة يوميا في استخدام تطبيقاته؛ فيسبوك وإنستاجرام وفيسبوك ماسنجر. لكن ماذا لو نتج عن الجهود المبذولة لتعريض الناس لآراء سياسية أخرى نسبة انخراط أقل؟ تهدف خوارزمية المجموعة إلى الحفاظ على بقاء المستخدمين في الموقع حتى تتمكن من أن تعرض عليهم مزيدا من الإعلانات. لكن ذلك لا ينسجم بالضرورة مع طموحاتها الجديدة الرامية إلى مساعدة القراء في العثور على مصدر دقيق للمعلومات.
يقول كيركباتريك "ما العواقب التجارية المترتبة على ذلك؟ ما مدى استعداده للتضحية بالإيرادات من أجل حل المشكلة؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي لا يتناوله زوكربيرج".


في النهاية، قرارات "فيسبوك" فيما يتعلق بالمادة التي يريد إظهارها للناس من خلال منشورات الأخبار هي قرارات مبهمة، وحتى مع افتراض أفضل النوايا ربما لا تكون المجموعة الهلامية من المستخدمين البالغ عددهم نحو ملياري شخص من مختلف الجنسيات والأعمار والمعايير الثقافية.
تقول زينب توفيق، وهي أستاذ مساعد في جامعة نورث كارولينا تُدرس تأثير التكنولوجيا في المجتمع "الموضوع المثير للجدل هو أن "فيسبوك" وحده هو الذي يقرر ما يُفعل بشأن هذا الأمر في النهاية".

التحفظ مع الآخرين

في نيسان (إبريل)، أطلقت المجموعة مشروعا بتكلفة 14 مليون دولار هدفه تحسين نزاهة الأخبار على الإنترنت. وأطلقت أيضا أداة تعليمية للمساعدة على معرفة الأخبار الكاذبة عبر "فيسبوك"، من خلال قائمة مكونة من عشر نصائح. لكن بعضهم يجد أن تلك التدابير سطحية.
يقول البوفيسور هوارد "أجد أن مجموعة الأمور التي يلجأ إليها "فيسبوك" لإصلاح الوضع هي تجميلية إلى حد كبير، ويغلب عليها تفضيل أفكار تفرض تكاليف على المنظمات الأخرى. لماذا ينبغي للجمهور تحمل تكاليف أعمال التدقيق على فيسبوك"؟
في مكتب كوريكتيف في برلين، يبدو شرافين مصرا على أنه ينبغي ألا تكون هناك علاقة مالية بين شركته و"فيسبوك". "إذا بدأ "فيسبوك" في الدفع لك، حينها ستكون شخصا غير مستقل. عندما تكون في مثل هذا الموقف، يمكنهم أن يفرضوا عليك ما يجب أن تفعل، وعندما تعمل مدققا للحقائق، تحتاج لأن تعمل بشكل مستقل". على الرغم من المخاوف التي يشعر بها إزاء علاقته بـ "فيسبوك"، يعتقد شرافين أن الشركة تنظر بجدية إلى دورها محكما لنوعية الأخبار.
يقول "فيسبوك قوي لأن الثقة بالصداقة أقوى من الثقة بعلامة تجارية مثل صحيفة. بالنسبة إلينا، الأمر الأهم هو التصدي لمشكلة يكون من الصعب حلها من قبل المجتمع. هذا هو هدفنا. وسنوظف كل مواردنا أينما لزم الأمر".

التعليـــقات