رئيس التحرير: طلعت علوي

الهجوم الكيميائي

الأربعاء | 03/05/2017 - 09:51 مساءاً
الهجوم الكيميائي

 

جورج كرزم
 

مر أكثر من خمسين عاما منذ أن بدأ العلماء والسلطات المختصة بالشأن البيئي في دول كثيرة، بالتحرك لمنع المخاطر الناجمة عن استخدام الكيماويات الصناعية؛ فتم حظر بعض المواد الخطرة، وفرضت قيود على إنتاج واستخدام بعضها الآخر.  إلا أن العديد جدا من الكيماويات لا تزال تلوث البيئة بشكل واسع.  الأنظمة والقوانين القائمة لا تتعامل بفعالية مع المخاطر الكثيرة التي يؤكد العلماء على تفاقمها المتواصل من حيث تأثيرها على كل مناحي الحياة.


حراك الجمهور الذي بدأ منذ سنوات طويلة ضد المخاطر الناتجة عن الكيماويات، تركز أساسا ضد المبيدات الكيميائية تحديدا.  لكن، من الواضح اليوم أن التعرض للكيماويات أكبر مدى بكثير من المبيدات، ابتداء من مثبطات (مضادات) الاشتعال في الفرشات والأجهزة الكهربائية، مرورا بإضافات البلاستيك في السلع المختلفة، وانتهاء بالمواد الموجودة في الأدوية وغيرها التي تتسبب باختلال النظام الهورموني. 


وبالرغم من الإجراءات الكثيرة التي اتخذتها دول الاتحاد الأوروبي وغيرها، بخصوص تقليل استعمال المبيدات الكيميائية إلى الحد الأدنى، وبالتالي تقليل مدى التعرض لهذه المواد الخطرة، إلا أنه لا تزال هناك العديد من المواد الخطرة المتداولة في بعض الدول الأوروبية، مثل المبيدات الحشرية التي تتلف الجهاز العصبي ومبيدات الأعشاب المسرطنة، ومع ذلك لم يتم منع استعمالها، رغم وجود أسباب قوية ووجيهة لمنع تداولها.  وبالطبع، ينسحب هذا الأمر على مناطق السلطة الفلسطينية.


ومن بين هذه المبيدات، في المستوى الفلسطيني، على سبيل المثال، مبيد الكونفيدور، ومجموعة المركبات الفسفورية العضوية، مثل"سوبر أسيد"، "نماكور" وغيرهما، ومبيدات الأعشاب التي تحوي المادة الفعالة: “glyphosate” (غلايفوسات)، علما أن الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IARC) التابعة لمنظمة الصحة العالمية، أعلنت في آذار عام 2015، بأن مادة “glyphosate” قد تتسبب بأورام سرطانية لدى البشر؛ إلا أنه وحتى تاريخ كتابة هذه السطور لم يتم حظر تلك المبيدات في مناطق السلطة الفلسطينية، علما بأن هناك ما لا يقل عن 8 مبيدات أعشاب كيميائية تجارية تحوي مادة glyphosate مسموح تداولها فلسطينيا. 
الحقيقة أن توجه السلطات الرسمية لتقليل المخاطر الناجمة عن المبيدات الكيميائية يعتمد بشكل أساسي على تحديد تركيزها في المنتجات الغذائية، إثر "تقييم مستوى المخاطر".  هذا التقييم في الواقع ليس علميا ولا يستند إلى معلومات غذائية ذات صلة، بل إلى قياسات ميكانيكية موحدة؛ الأمر الذي يعد إشكالية علمية ومنهجية جدية، لأن تغذية الطفل الذي يعيش في سيبيريا بروسيا على سبيل المثال، قد تختلف كثيرا عن تغذية طفل في مخيم الجلزون برام الله.


ثم إن استخدام ما يسمى بالكميات أو المستويات الكيميائية "المسموح بها" (حسب منظمة WHO أو غيرها) لا يعني إطلاقا عدم خطورة هذه المبيدات أو عدم تسببها بأمراض خطيرة، حتى لدى الالتزام بما يسمى "الكميات المسموح بها".  لذا من المحبذ التوقف نهائيا عن استعمال المبيدات الكيميائية.
كما لا يوجد في الولايات المتحدة وفي العديد من الدول الغربية الأخرى، وبالتأكيد ليس في فلسطين- لا يوجد فحوصات مخبرية لمتبقيات المبيدات في الأغذية المصنعة، بما في ذلك عصائر الفاكهة.
ومن اللافت، أن حكومات عديدة تحاول إقناع الجمهور في بلدانها بأن تعرضه للمبيدات يكون محدودا وغير ضار، شريطة ألا تتجاوز متبقيات المبيدات في غذائه اليومي "الحد الأدنى المسموح به دوليا"، حسب منظمة WHO، وأن لا يتجاوز (الجمهور) معدل التناول اليومي المسموح به أيضا. 


باعتقادنا، الادعاء الأخير خاطئ، لأنه لا توجد طريقة مضمونة لتناول الطعام اليومي بما ينسجم مع المقاييس المخبرية "الدقيقة" السابقة، وبخاصة أن غذاء الجمهور متنوع، وبعض الفئات (كالأطفال مثلا) أكثر تأثرا بالكيماويات من غيرها، فضلا عن الذين يعانون من سوء التغذية.  كما أن معياري "الحد الأعلى المسموح به" و"معدل التناول اليومي" لا يأخذان بالاعتبار التأثيرات الخطيرة الناجمة عن خلط المبيدات؛ إذ أن مخاليط المبيدات تكون غالبا أكثر سمية من كل مبيد على حدة.

تعاظم إنتاج المبيدات والمواد الطبية بسرعة هائلة
ما يثير القلق بشكل خاص هو المواد المعروف بتسببها في خلخلة النشاط الهورموني بجسم الإنسان، وليس فقط المبيدات الكيميائية، بل أيضا مواد مثل "بيسفينول أ" (Bisphenol A / BPA) التي تضاف إلى المنتجات البلاستيكية.  العديد من دول العالم لم تمنع أو تقيد استخدام هكذا مواد. 


المفارقة أن السلطات الرسمية تعتمد على المعلومات التي تصرح بها الشركات المنتجة لمثل هذه المواد، وذلك من خلال إلزامها بعمل فحوصات، وبالتالي إبلاغ الجهات المختصة عن المعطيات التي تؤكد وجود خطر إصابة الجهاز الهورموني باضطراب وظيفي.
النظام البيروقراطي لتقييم مخاطر المواد الكيميائية مرهق، وإجراءات مراجعة وتدقيق الأبحاث كثيرا ما تستغل من قبل المتنفذين في القطاع الصناعي، بهدف تأجيل اتخاذ القرارات الخاصة بهذا الشأن.  كل هذا يحدث في الوقت الذي يكشف فيه العلماء عن مدى تعقيد وخطورة تأثيرات الملوثات الكيميائية.


إن أحد أبرز التحديات العلمية، خلال السنوات القادمة، يتمثل في فهم مدى تأثير التعرض لتركيز منخفض من الكيماويات على صحة الإنسان.  الاعتقاد العلمي السائد هو أن هذا التأثير يزداد باضطراد خلال سني حياة الإنسان، بسبب التعرض المتواصل للمواد الكيميائية.  جانب آخر هام لا بد من بحثه هو التأثير المتراكم لتعرض الإنسان لمجموعة من المواد الكيميائية في ذات الوقت.
ومن الأهمية بمكان أيضا فهم وظيفة ما يعرف بـ "الميكروبيوم" (Microbiome)، أي إجمالي الكائنات الحية الدقيقة في جسم الإنسان، من حيث تعاملها مع الكيماويات.  في السنوات الأخيرة، بدأ العلماء يدركون بأن في جسم كل إنسان يوجد مجتمع بيولوجي فريد من الكائنات الحية، وذلك وفق ظروف حياته وعاداته.  ويتأثر هذا المجتمع البيولوجي من مدى وجود الكيماويات في الجسم، وبإمكانه التأثير على رد فعل الجسم لدى تعرضه للمواد الكيميائية الغريبة عنه.


المواد الكيميائية لا تهدد فقط صحة الإنسان، بل أيضا صحة الأنظمة الإيكولوجية.  في شهر كانون ثاني الماضي، نشرت الدورية العلمية "Frontiers in Ecology and the Environment" نتائج دراسة أجراها علماء من الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا، حول مدى إنتاج الكيماويات الصناعية وتأثيرها على الأنظمة الإيكولوجية. 
بحسب الدراسة المذكورة، فإن مدى إنتاج الكيماويات مثل المبيدات والمواد الطبية، تعاظم بسرعة أكبر من العوامل الأخرى التي تؤثر على البيئة، مثل الأسمدة وغازات الدفيئة؛ إلا أن معظم العلماء يتجاهلون تأثير هذه الكيماويات على الطبيعة وتوازنها، إذ أن أقل من 2% من صفحات المجلات الممولة من المؤسسة الوطنية للعلوم الأميركية، تعالج هذه المسألة. 


القائمون على الدراسة السابقة يعتقدون بوجود أسباب وجيهة للتوسع كثيرا في البحث.  أول هذه الأسباب وأهمها أن الكيماويات الصناعية انتشرت على سطح الكرة الأرضية، وسيبقى بعضها في البيئة لسنوات طويلة.  وفي ظل هكذا تلوث كيميائي، لو تم فحص عينات عشوائية من دم الأفراد، لتبين وجود متبقيات مبيدات حُظِر استعمالها منذ سنوات طويلة في مناطق السلطة الفلسطينية وفي دول عديدة أخرى، بما في ذلك مبيدات "دي. دي. تي" و"فوليدول".

التعليـــقات