كرم الحلو
لأنك رفضت أن تقف في باب الزعيم، زعيم الطائفة أو زعيم الحزب أو زعيم القبيلة، مستجدياً وظيفة أو مكسباً أو بطاقة مرور الى جنة المغانم والامتيازات، حيث يتربع ملوك الطوائف والأحزاب والعصائب ممن اتقنوا جيداً مقولة عبدالرحمن الكواكبي «أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفة ورتبة» ليستأثروا بخيرات الوطن ومقدراته، ولو كان ذلك على حساب سواده الأعظم وشقاء غالبية أهله الذين يكدحون الليل والنهار ليحصلوا على الحد الأدنى من رزقهم وقوت عيالهم. لأنك رفضت أن تكون رقماً يضاف الى أرقام البطالة المقنّعة ممن يحملون الإجازات ويشغلون المناصب من دون أن يساهموا في ارتقاء الوطن وتقدمه ويظلون عبئاً يضاف الى أعبائه وخيبة تضاف الى خيباته، فيما أندادهم في العالم المتقدم يمهدون طرق المستقبل ويشيدون صرح الحضارة الانسانية العظيم. لأنك رفضت كل ذلك وأصررت على رفضك، آثرت الرحيل، حزمت حقائبك ورحلت الى بلد طالما أُعجبت بإبداع علمائه وإصراره على التقدم والتطلع الى الذرى رغم المحن والنوائب، فاحتضنك ورعاك في أرقى جامعاته ثم فتح أمامك أبواب أرقى مصانعه وشركاته لتعمل بإخلاص مع علمائه ومبدعيه في انتاج الحضارة الانسانية، وصولاً الى منحك هويته من دون منّة.
وها أنت الآن تغرز قدميك في أرض ليست أرضك، وتحت سماء ليست سماءك، وبين قوم ليسوا قومك، متشبثاً في الوقت نفسه بهويتك اللبنانية التي تفخر بها، وبانتمائك المغروس في صميمك وشماً أبدياً لا يحول ولا يزول. أعلم أنك كأبيك تؤمن بانتماء الانسان الأساسي للكون، وأن كل الأوطان وطنه، وأن كل الناس أهله وإخوانه، ويمكن بل يجب أن يعيش معهم بمحبة وسلام، على ما تصور فيلسوف ألمانيا العظيم كانط. لكنك كأبيك كذلك تدرك أن التاريخ ليس «حقيبة» وأن الجذور ليست مسألة قابلة للدرس والمراجعة.
لعلك كذلك لا تنفك تسألني عن رفاق طفولتك وصباك، عن جارتنا العجوز التي هدهدتك صغيراً، عن أشجار الحقل، وعن السنديانة قرب منزلنا التي كنت تهوى تسلق أغصانها، لكنك على رغم كل شيء آثرت الرحيل. تذكر ما رواه لك جدك الذي «كفّه جادت على الدنيا وما جادت عليه» من قصص القهر والمعاناة مع أنظمة الظلم والتسلط والاستبداد. كما تذكر ما رواه لك أبوك عن لقاء مع وزير تربية، جمعه ذات يوم، وشلة من رفاق كافحوا لتحصيل المعارف والرتب العلمية، في زمن ندرت فيه الكفاءات، وصعب تحقيق الأماني والأحلام، أتوا يطالبون بإنصافهم ولو في الحد الأدنى، فما كان من ذلك الوزير إلا أن صاح غاضباً: من قال لكم أن تضحّوا وأن تتعلموا وتحصلوا على إجازات لا معنى لها لدينا ولا نريدها؟ وها قد انصرف أبوك ورفاقه الى عالمهم الخاص ولم ينالوا شيئاً مما سعوا اليه بعد عقود، فيما «أهل الحل والعقد» لا يزالون يتربعون سعداء على كراسٍ كأنها «نعش يدق بجنبه مسمار» على حد قول الشاعر الجواهري.
إعلم يا بني أنك لن تتخلى عن أي جذر من جذورك، ولا عن أية ذكرى من ذكريات طفولتك وصباك، ولا عن أية صلة من صلات الود مع أهلك، ولكنك مع ذلك آثرت الرحيل فخوراً بهويتك الجديدة مع هويتك اللبنانية. كأني بك تردد قول الشاعر المهجري جبرائيل دلال: «إن قلبي يهوى الرجوع إليكم... وصوابي يقتادني للرحيل».