عدنان الصباح
مع بداية كل عام تتقدم الشركات المساهمة العامة بميزانياتها السنوية لهيئة سوق رأس المال، وبما أن الإفصاح السنوي يتأخر عادة فإن قراءة بسيطة وسريعة للميزانيات التي تم الإفصاح عنها في الربع الثالث وحسبما كانت عليه في 30/9/2016 نجد أن الأرقام تشير إلى حقائق خطيرة عن حجم الذمم المدينة المترتبة لصالح شركات التأمين العاملة في السوق الفلسطيني.
رأس المال 60 مليون وذمم ب 72 مليون!
إن الحقائق التي يمكن جمعها بخصوص حجم الديون لصالح شركات التأمين في السوق تشير إلى أن صافي هذه الذمم بعد طرح قيمة المخصصات للذمم المشكوك في تحصيلها يصل إلى ما يقارب 72 مليون دولار في نهاية الربع الثالث من العام 2016.
هذه الأرقام تأخذ خطورتها إذا عرفنا أن إجمالي رأس المال لشركات التأمين الفلسطينية السبع العاملة في السوق الفلسطيني هو حوالي 60 مليون دولار وهذا يبين مدى خطورة الذمم التي تعاني منها الغالبية العظمى من شركات التأمين الفلسطينية وحتى لا يفهم من القول أن كل شركات التأمين تصل ذممها إلى أكثر من رأس مالها فإن الأرقام هنا تم جمعها، وبالتأكيد هناك شركات خارج هذه الحالة المأساوية إلا أن الحديث هنا يدور عن صناعة التأمين في فلسطين كوحدة واحدة ولا تستطيع شركة واحدة أن تنأى بنفسها عن هذه المأساة حتى وان كانت أرقامها لا تشير إلى ذلك.
حالة مقلوبة الرأس!
عند إصدار بوليصة التأمين يترتب على الشركة مسؤولية مباشرة، وإذا عرفنا بأن الإجراء القانوني الصحيح والمعمول به عالمياً في مجال صناعة التأمين يقوم على استيفاء وتسديد أقساط التأمين الإلزامية نقداً، وفي الحالة الفلسطينية فإن تأمين المركبات وتأمين العمال يندرجان تحت إطار التأمين الإلزامي، حيث لا يجوز وفقاً لقانون المرور وقانون التأمين أن تسير أية مركبة على الطريق دون أن تكون مؤمنة ومرخصة حسب الأصول، والحالة نفسها في تأمين إصابات العمل حيث أوجب القانون أن يقوم رب العمل بالتأمين على جميع العاملين لديه بغض النظر عن طبيعة العمل سواء مكتبي أو صناعي أو ميداني، هذا مع العلم أن حصة تأمين المركبات الإلزامية من مجمل أقساط التأمين في السوق الفلسطيني تفوق نسبة 60% وإذا تبين أن الذمم وعدم التسديد النقدي هو الأساس فمعنى ذلك أننا أمام حالة مقلوبة الرأس فعلى الشركات أن تسدد التزاماتها للمصابين والموردين والمتضررين دون أن تتمكن من جمع أقساطها وتتفاقم الأزمة أكثر فأكثر وفي كل ميزانية جديدة نجد أن الأرقام تتعالى والأزمة تتفاقم.
90 ألف مركبة غير مرخصة!
ان البيئة التي تعمل بها شركات التأمين ممن تعتمد أصولا في أقساطها على التأمينات الإلزامية تمتلئ بالعقبات والعثرات، فأعداد الحوادث المرورية بازدياد شديد مع ارتفاع نسبة السيارات غير المرخصة أو غير القانونية أو المشطوبة أصلا اذ سجل العام 2016 حوالي 40 ألف حادث مروري. كما أن أعداد الوفيات نتيجة الحوادث المرورية بازدياد ايضا، فقد ارتفع عدد الوفيات من 110 حالة وفاة في العام 2015 إلى 159 حالة وفاة في العام 2016 ورغم أن التأمينات الإلزامية تعتبر العمود الفقري للأقساط المستوفاة سنويا إلا أن هناك أكثر من 90 ألف من المركبات غير المؤمنة وغير المرخصة تسير على الطرق كقنابل موقوتة.
75% من العمال غير مؤمنين!
أن نسبة العمال غير المؤمنين تتجاوز 75%، ويبدو واضحا أن من يؤمن عليهم من العمال ضد إصابات العمل هم أصحاب المهن الخطرة مما يمنع أو يلغي حتى إمكانية الربح في هذا القطاع. وهذا يضيف تحد جديد لإمكانية النمو في قطاع التأمين، خاصة مع غياب الرؤية والسياسات التنموية من قبل جهات الاختصاص.
التأمين الصحي ليس احسن حالا!
كل ما ذكر ينطبق أيضا على أقساط التامين الصحي الخاسر أصلا، ومع ذلك فهو غير معمم وخاسر بسبب المنافسة. السوق الفلسطيني إذن هو سوق التأمينات الإلزامية والصحي وأقساط التأمينات المرغوبة لا تتجاوز بمجملها 15% من مجمل أقساط التأمين السنوية.
بيئة طاردة للاستثمار!
تلك البيئة المعقدة تنعكس سلبا على المستثمرين من حملة الأسهم والذين سيجدون الاستثمار بهذا القطاع غير مجدي ولا يحقق النفع المطلوب من قبلهم على شكل أرباح حقيقية ملموسة، كون الذمم أعلى من رأس المال، ودون تصور على المدى المنظور لوضع حد لتفاقم هذا الوضع المقلق والطارد للاستثمار، بل إن جل ما اتمناه ان تبقى الشركات العاملة حاليا، صامدة ومستمرة على الرغم من البيئة الاستثمارية المعقدة والخطرة.
إن الاستمرار في هذه الحالة قد يضع شركات التأمين أمام معضلة كبيرة جدا، والسؤال المهم بالتأكيد والذي يتبادر إلى الأذهان أين البيئة الملائمة والبنية التحتية المستدامة لتطور ونمو قطاع التأمين في فلسطين؟ وكيف ستستطيع شركات التأمين الاستمرار بالوفاء بالتزاماتها والأعباء المتزايدة؟ وخدمة المواطن الفلسطيني على الشكل الذي يجب؟
المواطن: الخاسر الاول!
بات من الواضح ان الخاسر الأول هو المواطن، فحين تصبح صناديق الشركات خاوية من الوفر النقدي ولا تحصل على قيمة أقساطها نقدا فإن ذلك بالتأكيد سيؤثر بشكل سلبي على جودة الخدمة المقدمة للمواطن ومن جانب آخر فإن ارتفاع قيمة الذمم بما يفوق رأس مال بعض الشركات وأحيانا حتى موجوداتها وحقوق مساهميها وبالتالي ملاءتها المالية كمؤشر على قدرتها الثابتة على الوفاء بالتزاماتها تجاه حملة بوالص التأمين بشكل خاص والجمهور بشكل عام.
كل ما تقدم يوضح الدليل القطعي على أن البيئة الاستثمارية لقطاع التأمين لا تبشر بالخير وهي لا تشير إلى قدرة الشركات العاملة على تطوير أدواتها ومكوناتها بما في ذلك مواردها البشرية لا من حيث الكم واستيعاب جزء من البطالة والخريجين ولا من ناحية زيادة مساهمتها في الناتج المحلي، ما يشكل عائقا أمام شركات التأمين للقيام بدورها في التنمية الاقتصادية.
إن قطاع التأمين الفلسطيني الذي يعد من أهم القطاعات الاقتصادية الحامي للثروة القومية الفلسطينية، يعاني من حالة عدم الاستقرار ويواجه العديد من التحديات والمعيقات التي تحد من إمكانيات نموه وتطوره وذلك بسبب التزاحم والمنافسة على أقساط التأمين الشحيحة والمحدودة المتوفرة في سوق التأمين الفلسطيني، وما وصول حجم ديون الشركات إلى مستوى يتجاوز رؤوس أموالها ما هو إلا أكبر دليل على حجم التحديات التي تواجه هذا القطاع.
إننا جميعا مطالبون بالتكاتف لإعادة ترميم وحماية صناعة التأمين حتى نتمكن من إيجاد وسائل فعالة لحماية هذا القطاع الحيوي من اقتصادنا الوطني باعتبار التأمين صناعة الحماية لاقتصاد أي دولة.