ها هو الرئيس الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأميركية، باراك حسين أوباما، يبدأ لملمة أوراقه وحزم حقائبه استعداداً لمغادرة البيت الأبيض، مفسحاً مكانه للقادم الجديد الذي وقع عليه اختيار الشعب الأميركي ليصبح الرئيس الخامس والأربعين وهو دونالد ترامب. ولأن السمات الشخصية والتوجهات السياسية والفكرية والجذور الاجتماعية والطبقية للرئيس القادم تكاد تمثل النقيض التام لكل ما يعبر عنه الرئيس المغادر، يصعُب على المرء أن يصدق أن انتخابهما لتبوؤ المنصب الأهم والأخطر في العالم جاء من الشعب نفسه، وخصوصاً أن المسافة الزمنية التي تفصل بين انتخاب هذين النقيضين لا تتجاوز ثمانية أعوام، وهي فترة قصيرة جداً لا تكفي لإفراز ظواهر مجتمعية تبرر مثل هذا الانقلاب المفاجئ في المزاج العام لأي شعب. لذا أظن أن علماء السياسة والاجتماع والتاريخ سيتوقفون طويلاً من الآن فصاعداً لتفسير ما حدث، ولتحليل العوامل والأسباب الداخلية والخارجية التي أسهمت في حدوث هذا الانقلاب الكبير الذي قد يكلف العالم كله، وليس الشعب الأميركي وحده، ثمناً باهظاً في المستقبل.
بخروج أوباما من البيت الأبيض، بعد فترة حكم طالت لثماني سنوات على رأس أقوى دولة عرفها التاريخ، تطوى صفحة من تاريخ الولايات المتحدة والعالم، سيتوقف عندها علماء السياسة والاجتماع والتاريخ طويلاً، بالتحليل والتقييم، لإلقاء الضوء على كل الجوانب الإيجابية والسلبية فيها. وبدخول ترامب إلى البيت الأبيض تفتح صفحة جديدة لم يُكتب فيها شيء بعد، وليس بوسع أحد أن يتنبأ سلفاً بحجمها أو مساحتها، وهل ستكون صفحة طويلة أم قصيرة، مشرقة أم معتمة. لكن الشيء الوحيد الذي يمكن الجزم به هو أن ما سيسطر فيها لن يقتصر على ما يقرره ترامب وفريق إدارته، وإنما سيكون حصيلة مجمل التفاعلات الداخلية والخارجية تجاه ما سيتقرر في واشنطن، أو بالتعاون مع عواصم أخرى، بصرف النظر عما إذا كانت سلبية أو إيجابية، داعمة أو مقاومة أو محايدة.
دفعني التأمل في دلالة هذه اللحظة التاريخية إلى العودة إلى ما كتب في الصحافة العربية عن أوباما وإدارته لحظة وصوله إلى البيت الأبيض ومحاولة تتبع المواقف التي عبرت عنها تلك الكتابات حتى يومنا هذا، فتبين لي أننا نجنح عادة نحو المبالغة في كل شيء. فقد انتقلنا من المبالغة في الترحيب به وفي الحماس له وفي توقعاتنا منه، خصوصاً عقب خطابه الشهير في جامعة القاهرة، إلى مبالغة في الهجوم عليه والتنديد بسياساته إلى حد التشهير به والسخرية منه، خصوصاً مع اقتراب نهاية عهده. وإن دلت هذه الكتابات على شيء فعلى سطحيتنا في فهم آليات عمل النظام الأميركي، وفي تقدير هامش المناورة المتاح أمام كل رئيس لدفع الأمور في هذا المسار أو ذاك، لكن الأخطر من ذلك أنني اكتشفت أنه نادراً ما تضمنت الكتابات العربية تقييماً موضوعياً لأداء السياسات العربية الرسمية تجاه الولايات المتحدة في عهد رئيس أميركي تحمست له الشعوب العربية كثيراً في البداية، أو تحليلاً معمقاً لنوع القرارات أو المبادرات العربية التي استهدفت مساعدة إدارة أوباما على تبني سياسات تخدم المصالح العربية أو ردعها عن تبني سياسات تضر بتلك المصالح. كما يتضح من تلك الكتابات أنه نادراً ما يتبنى القادة العرب سياسة موحدة تجاه أي إدارة أميركية أو غير أميركية، وكثيراً ما يتصرفون كقبائل متنافرة، لكل شيخ منهم مطلب خاص أو أكثر، عادة ما يدور حول حمايته الشخصية أو حماية نظامه أو في أحسن الأحوال حماية مصالح وطنه كما يراها هو، ولكن نادراً ما تكون لأي منهم مطالب تتعلق بمصالح عربية أو قومية عليا. ولهذا السبب فكثيراً ما يجد كل رئيس أميركي نفسه، حتى ولو كان لديه استعداد أولي لمساعدة العرب على مساعدة أنفسهم، عاجزاً عن التجاوب مع مطالب العرب المتناقضة، وقادراً في أحوال كثيرة على ضرب العرب بالعرب لحماية مصالح الولايات المتحدة ومصالح حلفائها الأقربين. وأظن أن السياسات العربية تجاه سورية كانت مثالاً واضحاً لجانب من تلك السياسات المتناقضة التي أسهمت في تحويل أزمة داخلية إلى حرب أهلية تديرها قوى إقليمية ودولية من الخارج.
كنت أحد الذين تحمسوا لأوباما بشدة، وتمنيت أن يكون وصول أستاذ جامعي من أصول أفريقية وأب مسلم إلى البيت الأبيض دليلاً ومؤشراً إلى بداية تغيير حقيقي ليس فقط في طريقة عمل وأداء النظام الأميركي وحده وإنما النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة أيضاً، شئنا أم أبينا. غير أن حماسي للرجل راح يفتر رويداً رويداً مع كل خطوة كان يضطر فيها للتراجع أمام نتانياهو الذي قرر أن يتحداه منذ اللحظة الأولى. وحين نجح رئيس وزراء إسرائيل المتطرف في حمل الكونغرس على توجيه دعوة رسمية له، رغم أنف الرئيس الأميركي، ليهاجم من فوق منبره سياسة أميركا الخارجية تجاه إيران، خصوصاً بعد إبرام اتفاق حول برنامجها النووي، أدركت أن أوباما لا يملك شروط ومقومات الزعامة التي تمكنه من قيادة النظام العالمي نحو تغيير حقيقي. ومع ذلك فقد كنت وما زلت أعتقد أن التاريخ سيسجل أن أوباما كان واحداً من أفضل الرؤساء في تاريخ الولايات المتحدة، ليس بحكم ما استطاع إنجازه من تغيير ولكن لامتناعه عن الانسياق وراء إغراءات بارتكاب حماقات من النوع الذي قام به سلفه وكلف الولايات المتحدة والعالم كثيراً. وفي اعتقادي أن قرار أوباما بالامتناع عن استخدام حق الفيتو والسماح بتمرير مشروع قرار يدين سياسة الاستيطان الإسرائيلية، وقيام وزير خارجيته بإلقاء خطاب شامل عن الصراع العربي- الإسرائيلي أكد فيه موقف الولايات المتحدة الداعم رسمياً لحل الدولتين، وهو الحل الذي يعارضه ليس فقط نتانياهو وإنما ترامب أيضاً، كان صرخة ضمير من مثقف أميركي يرتدي عباءة رئيس الدولة الأقوى في العالم، حين أدرك أن لديه فرصة لم تسنح له من قبل لتسجيل هدف في الوقت الضائع! وربما يتذكر العالم كله تلك اللحظة الفارقة حين يتابع تصرفات ترامب الحمقاء على مدى الشهور وربما السنوات المقبلة.
إذا كان العرب قد عجزوا عن الاستفادة من وجود رجل مثل أوباما على رأس الإدارة الأميركية طوال ثماني سنوات، وراح وضعهم على الصعيدين العالمي والإقليمي ينتقل من سيئ إلى أسوأ خلال تلك الفترة الطويلة، فكيف سيكون عليه حالهم في ظل إدارة أميركية يقودها رجل مثل ترامب، يكره العرب والمسلمين، بل يكره كل ما هو غير أميركي؟ أظن أن العرب، وكعهدهم دائماً، ليسوا موحدين في رؤيتهم لإدارة ترامب، وينقسمون في هذا الشأن إلى ثلاثة فرقاء على الأقل:
- فهناك فريق يتصور أن ترامب سيكون أفضل من أوباما لأنه يعد بتبني سياسات أكثر تشدداً إزاء المنظمات الإرهابية. ويعتقد هذا الفريق أن إدارة ترامب تتعامل مع جماعة «الإخوان المسلمين» كجماعة إرهابية شأنها في ذلك شأن كل التنظيمات الأخرى التي تحرض فكرياً على التطرف الديني وكراهية الآخر.
- وهناك فريق ثانٍ يتصور أن أوباما سيكون أفضل لأنه يعد بتبني سياسات أكثر تشدداً تجاه إيران وبرنامجها النووي، ومقاومة كل مخططاتها التوسعية في المنطقة.
- وهناك فريق ثالث يتصور أن بمقدوره، في أسوأ الأحوال، تحييد ترامب أو استمالته عبر معادلة «الأمن مقابل المال والصفقات التجارية الكبرى» والتي يفهم مفرداتها جيداً ويتقن فنون التفاوض استناداً إلى قواعدها.
إذا تأملنا المنطق وراء هذه التصورات فسوف نكتشف أن العرب لم ولن يتغيروا. فكل فريق منهم ما زال يراهن على أن الرئيس الأميركي سيتولى نيابة عنه حل المشكلة التي تؤرقه أكثر من غيرها: «الإخوان المسلمين» بالنسبة الى الفريق الأول، وإيران بالنسبة الى الفريق الثاني، والحماية العسكرية من أي تهديدات داخلية وخارجية محتملة بالنسبة الى الفريق الثالث. لكني أعتقد أنهم جميعاً واهمون. فترامب لن يكون معنياً إلا بمصلحة أميركا أولاً وبمصلحة إسرائيل بعد ذلك. وما لم يتمكن العرب جميعاً من بلورة سياسة موحدة للتعامل مع الإدارة الأميركية الجديدة والمتطرفة بقيادة ترامب فسوف يجدون أنفسهم جميعاً وقد جردوا من أموالهم وممتلكاتهم، وتركوا وحدهم ليس فقط في مواجهة جماعات إرهابية خرجت من تحت عباءتهم وإنما في مواجهة بعضهم بعضاً، وحين يفيقون، إن قُدّر لهم أن يفيقوا ذات يوم، فسوف يكتشفون أن السفارة الأميركية نقلت إلى القدس وأصبح الطريق ممهداً تماماً لتصفية القضية الفلسطينية.
حين يبدأ ترامب في بلورة سياساته تجاه منطقة الشرق الأوسط سوف يكتشف أن إسرائيل وإيران وتركيا تملك أوراق ضغط حقيقية يمكن أن تستخدمها لعرقلة أي سياسات أميركية لا تتوافق مع مصالحها، مما سيجبره على التفاوض بحثاً عن حلول وسط، كما سيكتشف أيضاً أن الدول العربية، والتي تتصرف دائماً كوحدات منفردة ومتباينة الأهداف والسياسات، لا تملك أية أوراق ضغط حقيقية، ومن ثم ستتحول إلى مفعول به وليس إلى فاعل، وبالتالي ستتولى هي دفع كل الفواتير والتكاليف، من أرضها ومالها وربما من دمها أيضاً. فهل العرب في موقف يسمح لهم حقاً بالتعامل الندّي مع إدارة ترامب؟
أيها العرب: اتحدوا يرحمكم الله أو، على الأقل، توقفوا عن كيد بعضكم للبعض الآخر كي يحترمكم الآخرون!
© الحياة اللندنية