رئيس التحرير: طلعت علوي

ياسر عرفات: "في كل واحد منا شيء منه"

الأربعاء | 21/09/2016 - 09:22 مساءاً
ياسر عرفات: "في كل واحد منا شيء منه"


بثينة حمدان


.. تفتح عيونها كل صباح على حائط علَّقَت عليه ملصقاً هو صورة رجل يرتدي كوفية فلسطين، حائط غرفتها حيث تعيش وعائلتها في حي المنزه السادس بالعاصمة التونسية، كانت قد ولدت في دمشق، في عام اجتياح بيروت، وحين تعلّمت المشي رحلت إلى تونس قسراً، وبعد أن تمتنت ساقيها وقفزت وركضت، قصفت الطائرات الحربية الاسرائيلية مكتب الرئيس ياسر عرفات وحدثت مجزرة حمام الشط، وحين أصبحت في الصف الأول وتعلّمت القراءة تهجأت اسمه على ذاك الملصق: "أبو عمار"، ومع أواخر الثمانينات اغتيل أبو جهاد، وبعده بسنوات اغتيل أبو إياد وأبو الهول في تونس، حينها علّقت تلك الطفلة بنفسها ثلاثة ملصقات أخرى، لكن هذه المرة لشهداء من أبرز قيادات المشروع التحرري الوطني، وهكذا ظلت تتأمل هذه الشخصيات، تحاول أن تفهم علاقتهم بهويتها التي كانت تجتهد في جمع أجزائها في الغربة، وتتسائل لماذا تحوّل الرمز الحي إلى مُلصق، والرموز الشهداء إلى مُلصقات أيضاً؟!


وفي كل هذا كانت صورة واحدة تمر بين كل الأحداث، وتغزو بصلابة كل أسئلتي عن الوطن البعيد، رائحته وروحه في كل القصص من حولي ومع كل الشخوص الذين كانوا يزورون تونس للقاء القائد الرمز "أبو عمار"، كان يتردد الاسم بسلاسة لامتناهية بين أرجاء البيت، أسمعه وأنا في غرفتي ألعب، وأنا أرافق والدي أحياناً إلى مكتب التعبئة والتنظيم، وأنا على مائدة غداء أقيمت على شرف ضيوف من الأرض المحتلة أو من المنافي.


"فلسطين" و"أبو عمار" اسمان متلاصقان مترادفان وهو أمر أدركَتهُ تلك الطفلة مع الوقت، وفي الحي حيث عاشت وحولها عدد من العائلات الفلسطينية كانت تبحث عن هويتها ووطنها، لم تعرف أنها أقرب ما يكون إلى حارس هويتها، وأبعد ما يكون عن "أرض" هويتها؛ أنا هي تلك الطفلة ابنة قرية عنابة المنكوبة عام 1948، دُعيتُ من قبل الدكتور أحمد يوسف القيادي البارز في حركة المقاومة الاسلامية حماس لأكتب عن القائد الرمز، فوجدت صفحات كتابه لشخصيات عاصرته وفي جعبتها الكثير عنه، أما "أنا" فقد بدأت الكتابة عني فـ: "في كل واحد منا شيءٌ منه"، كما قال الراحل محمود درويش.


أذكر "بيت الصمود" حيث أصدقائي اليتامى ومعظمهم ممن تبناهم القائد لأنهم فقدوا أهاليهم صغاراً في مجزرة صبرا وشاتيلا في لبنان، ورحلوا معه إلى تونس كيف لا وهم يحملون اسمه، هو العائلة وهو الأب، يزورهم دوماً يمضي وقتاً جيداً معهم ويستمع لهم ويحتضنهم ويغدق في تقبيلهم كما يحتاجون. وحين أبرم اتفاق أوسلو غادرنا معه تونس في محاولة عرفاتية للعودة وتقبيل ولو حبة من تراب الوطن، وفي فلسطين التقيته وتنعمت بقبلاته الشهيرة بصدقها وعمقها، وبإغداق يعود ربما لاحساس القائد بأن كل أبناء الوطن يعيشون حالة يُتمٍ ما تحت الاحتلال.


ماذا أكتب عن الشهيد الراحل؟ بين كل ما كتب عنه من المقربين والشعراء؟ وهو الذي لم يرضخ لكل الضغوط الدولية ولم يتنازل عن الثوابت، ولم يترك الكوفية، مقرراً البقاء في المقاطعة ومواجهة الأصعب والذي كان يرسم الطريق نحو غيابه بل وتغييبه بتخطيط اسرائيلي ودولي للنيل من الرمز الذي عرّف العالم بفلسطين، ومن لا يعرف فلسطين فهو بالتأكيد يعرف الختيار، وفي أضعف الإيمان يعرف صورته في زمن لا يعترف بالصورة -قبل انتشار الفضائيات-.


بدأ التخطيط للتخلص منه بسيناريوهات عديدة، أولها تفجير المنطقة وإعادة اجتياح الضفة وقصفها مطلع عام ألفين، وفي إحدى المرات عرفت أن الرئيس أبو عمار يزور المشفى لعيادة الجرحى والاطمئنان عليهم، لم استطع اللحاق به هناك، وعرفت أنه ذاهب لشارع البريد في رام الله حيث تم قصف الغرفة التجارية، انتظرته وانغمست بين الجمع الغفير حوله، وشاهدته يشير إلى فوهة في السقف أحدثها صاروخ، سمعته يتحدث عن الفوهة مع من حوله، وتساءلت ما الذي يستدعي كل هذا الوقوف وهذا الحديث! لم يكن سقفاً عادياً، فقد كان سقفاً يمر عبر سماءه، وسماء فلسطين التي اخترقها الاحتلال الاسرائيلي.


وأثناء فترة تدريبي في أحد التلفزيونات وأنا طالبة سنة أولى إعلام جامعة بيرزيت، كنت انتظر مع مجموعة من الصحفيين في مقر المقاطعة، لا نعرف متى يخرج الرئيس وضيفه ليقول شيئاً للاعلام، وبعد ساعات تحت الحر، خرج الزعيم وتهافت الصحفيين ورفعوا المايكروفونات ليظهر شعار المحطة التي يمثلها كل منا على الكاميرا، وبالتالي على الشاشات، حاولت بدوري أن يظهر شعار تلفزيون "وطن" المحلي، فرفعت يدي كثيراً بين كل الأيادي، أذكر جيداً كيف نظر الرئيس إلى تلك الفتاة التي ربما هي الأصغر بين الموجودين، نظرة عطف لا أنساها تحدث معي متضامناً مع تعبي الواضح، وأشار لمصوره الشخصي طالباً منه مساعدتي، فحمل مايكروفوني ووضعه فوق الجميع، المصور الذي كان يلتقط الصورة معي فوجئ لا يجد تفسيراً. كانت اجابتي سهلة: الرئيس ساعدني! عدنا إلى التلفزيون وأعدنا مشاهدة التسجيل في غرفة المونتاج واستمتعنا برؤية لوجو تلفزيون محلي فوق كل الفضائيات.


وخلال فترة الحصار أعلن الجيش الاسرائيلي أنه سيقصف المقاطعة على من فيها، فخرجنا جميعاً في مسيرة اخترقت منع التجوال والاجتياح والشهداء والموت الشعبي البطيء الذي كان يحاول الاحتلال زجنا فيه، نسينا كل شيء فجأة وخرجنا ليلاً صغاراً وكباراً رافضين المس بالقائد، وكانت مسيرة "العشاء الأخير"؛ آخر مسيرة في حياته. مرض بعدها فجأة، وبقي الصحفيون قرب باب المقاطعة في انتظار معلومة وبصيص أمل عن حالته، كان شهر رمضان، يحل آذان المغرب دون أن ندرك، يحاول أحدهم تذكيرنا بضرورة كسر الصيام بقطرة ماء. وهكذا إلى أن أقلّته المروحية إلى فرنسا وتسمّرنا على شاشات التلفاز، لكن القائد استشهد، وفي جنازته الشعبية في رام الله، شاهدتُ العالمَ بأسرِه، غيابٌ ليسَ بعده غياب، غيابٌ ظالم، غيابٌ جرّدنا من معاني القوة والصبر والصمود، وكأن الكوفية الفلسطينية انسحبت، وكأن السماء أغلقت أبوابها فلا موت بعده، ولا تاريخ بعده! يعزيناً بعض الشيء حياته ورحيله الأسطوري وقول الشاعر درويش: "في كل واحد منا شيء منه"... فيما لا نجد في الواقع شيئاً يعزينا في ظل غياب رمز يوحدنا!

التعليـــقات