عدنان كريمة
يفتش المال دائماً عن استثمارات آمنة ومضمونة الأرباح، لذلك خضعت حركة الاستثمارات العربية التي تراكمت من عائدات النفط إلى تغيرات في الخريطة الجغرافية وتذبذبات ارتبطت بتطورات مالية واقتصادية نتيجة تداعيات أزمات متنوعة ومتلاحقة، أهمها الأزمة العالمية التي بدأت في الولايات المتحدة عام 2008، وانتشرت تداعياتها التي لا يزال يعاني منها الاقتصاد العالمي وربما لسنوات أخرى. وكذلك ارتبطت بتطورات سياسية واضطرابات أمنية بدأت مع حركات الربيع العربي، وانتشرت تداعياتها السلبية في بلدان المنطقة، بشكل دفع جزءاً كبيراً من الأموال إلى مغادرتها إلى مناطق أكثر أمناً واستقراراً.
عندما بدأت الأزمة المالية العالمية عام 2008 مع انهيار «ليمان براذر»، تكبد المستثمرون العرب من جرائها خسائر كبيرة فضلاً عن تداعياتها السلبية على بعض دول الخليج. وحرصاً منهم على وضع حد لهذه الخسائر والعمل للحفاظ على قيمة استثماراتهم في المستقبل، تم سحب قسم كبير من الاستثمارات العربية في الخارج، وانعكس ذلك تراجعاً في حجم الاستثمارات المباشرة العربية الجديدة في العالم.
شهدت حركة الاستثمارات العربية فترة ذهبية مع ارتفاع أسعار النفط، وسجل عدد المشاريع للاستثمار المباشر في الخارج ارتفاعاً كبيراً، من 120 مشروعاً عام 2003 إلى 554 مشروعاً عام 2008. ولكن بسبب تداعيات الأزمة المالية العالمية تراجع العدد إلى 389 مشروعاً عام 2010، ثم عاود الصعود إلى أكثر من 600 مشروع عام 2012 ولكنه تراجع مرة أخرى إلى 344 مشروعاً عام 2015، متأثراً بانخفاض أسعار النفط وعائدات الدول المنتجة.
ووفقاً لبيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، تراجعت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الواردة إلى الدول العربية بنسبة 10 في المئة، من 44,3 بليون دولار عام 2014 إلى نحو 40 بليوناً في 2015 ولكن قيمة التدفقات ظلت ضعيفة جداً مقارنة بمستواها القياسي الذي بلغ 96,3 بليون دولار عام 2008.
ولوحظ في المقابل، ارتفاع كبير في تدفقات الاستثمار الصادر من الدول العربية إلى العالم إذ سجل قفزة بلغت 96 في المئة، من 14,5 بليون دولار عام 2014 إلى 28,4 بليون في 2015. وبلغت حصة 4 دول خليجية 86,2 في المئة من حجم هذه التدفقات موزعة بين 9,3 بليون دولار من الإمارات، و5,5 بليون دولار من السعودية، ونحو 5,4 بليون من الكويت، و4,3 بليون دولار من قطر.
أما على صعيد أرصدة الاستثمار الأجنبية المباشرة الصادرة من الدول العربية فقد بلغت نحو 298,5 بليون دولار بنهاية عام 2015، ومثلت 1,2 في المئة من الإجمالي العالمي البالغ 25 تريليون دولار، وتصدرت الإمارات قائمة الدول العربية بقيمة 87,4 بليون دولار، تليها السعودية بـ 63,3 بليون دولار، ثم قطر في المرتبة الثالثة بقيمة 43,3 بليون. ويقدر عدد الشركات العربية العاملة في العالم بنحو 1500 شركة تستثمر في 5045 مشروعاً، وتقدر الكلفة الاستثمارية للمشاريع العربية بين عامي 2003 حتى آذار (مارس) 2016 بنحو 590 بليون دولار، وهي موزعة على 148 دولة عربية وأجنبية.
حصل كل ذلك، مع استمرار الاضطرابات الأمنية والسياسية في منطقة الشرق الأوسط، وفي ظل تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، وركود اقتصاد دول الاتحاد الأوروبي باستثناء ألمانيا، وتراجع معدلات نمو الاقتصاد الصيني، مع الإشارة إلى أن الصين أهدرت نحو 42 تريليون يوان ( 6,9 تريليون دولار) في استثمارات غير مجدية على مدى خمس سنوات منذ العام 2009، كذلك أقفلت الشرطة أكثر من عشرة بنوك سرية مسؤولة عن تحويل أكثر من 22,6 بليون دولار خارج البلاد في شكل غير قانوني، إضافة إلى أن أنشطة غسل الأموال انتعشت في السنوات الأخيرة لمساعدة الأثرياء وكذلك عمليات التهريب المخالفة للقانون الذي يمنع الأفراد من تحويل أكثر من 50 ألف دولار سنوياً خارج البلاد.
وإذا كانت الاستثمارات العربية، خصوصاً الشركات الخليجية تتطلع لاستكشاف الفرص الاستثمارية وتأسيس شركات في أسواق واعدة مثل منطقة وسط آسيا في ضوء الواقع المتغير للتعاون الاقتصادي مع رابطة الدول المستقلة، فان الآمال قوية بقرب الاستقرار للعبور إلى الأمان في المنطقة، ليكون العالم العربي في المستقبل القريب محوراً أساسياً لاستقطاب الاستثمارات الخارجية. ولعل ما يدعم هذا الاتجاه بروز بعض المستثمرين الغربيين الذين يسعون وراء علاوات أخطار في مغامرة لجني الأرباح، على رغم استمرار الاضطرابات الأمنية والسياسية في بعض دول المنطقة. ويبدو أن تطلعات الغرب لمزيد من الاهتمام بالمنطقة العربية والاستفادة من ثرواتها ستتضاعف في السنوات المقبلة، خصوصاً خلال فترة إعادة إعمار ما هدمته الحروب، وسينعكس ذلك زيادة كبيرة في حجم تدفق الاستثمارات من الدول الصناعية الكبرى لا سيما «مجموعة العشرين»، إلى هذه المنطقة. وفي هذا المجال، يمكن الإشارة إلى أن عدد الشركات الأجنبية العاملة في الدول العربية ارتفع من 6109 شركات في نيسان (أبريل ) 2015 إلى 6587 شركة في نيسان الماضي، استناداً إلى قاعدة بيانات مجموعة «فايننشال تايمز»، ما أدى إلى ارتفاع حصة المنطقة من 7 إلى 7,6 في المئة من إجمالي عدد الشركات المستثمرة خارج حدودها في العالم، كما تستثمر تلك الشركات في 11541 مشروعاً في المنطقة وبنسبة 5,4 في المئة من عدد المشاريع الأجنبية القائمة في العالم والمقدرة بنحو 214 ألف مشروع، منذ العام 2003 حتى نيسان الماضي، وقدرت كلفة تلك المشاريع الإجمالية بأكثر من تريليون دولار.