بقلم:هاني حبيب
بينما تمر قرابة سبعة قرون على النكبة الفلسطينية، وتتجه الأنظار إلى الوضع الفلسطيني المتأزّم والحالة المتردية التي وصلت إليها قضية الشعب الفلسطيني المكافح بهدف العودة وتقرير المصير وبناء دولته المستقلة، والعقبات والنكسات التي أصابت نضاله الوطني في الصميم رغم عظمة التضحيات، في ظل تراجع هذه القضية على المستوى العربي والإقليمي والدولي، رغم الإنجازات الفلسطينية على هذا الصعيد، بينما تمرّ هذه الملاحظات والانعطافات في عقل وقلب الفلسطيني، وهو يراجع مسيرة شعبه طوال العقود السبعة الماضية، فإنه من دون شك يلحظ على الجانب الآخر من هذه النكبة، التحولات والانعطافات التي جرت على الكيان الإسرائيلي، الذي كان وراء نكبة الشعب الفلسطيني والسد المنيع أمام تطلعاته في تحقيق أهدافه، وهو إذ يراقب هذا الكيان من خلال ما طرأ عليه، أيضاً، منذ تمكنه من إلحاق النكبات بالشعب الفلسطيني، فإنما هو يحيط بالعناصر الأساسية للنكبة الفلسطينية بعد سبعة قرون أو أقل قليلاً من تسجيلها باعتبارها الانعطافة الحادة في صيرورة هذا الشعب وأرضه ووطنه.
ولعلّ إحدى أهم عناصر استمرار النكبة الفلسطينية من الزاوية الإسرائيلية، قدرة هذا الكيان على استثمار كل عناصر القوة والتخطيط الممنهج على كافة الأصعدة من أجل ترويج روايته التاريخية على حساب الرواية الفلسطينية، إلاّ أن الأهم في هذا العنصر يتعلق بما أفرزه التاريخ وعامل الوقت من محددات يجب أخذها بعين الاعتبار، فإذا ما عرفنا أن معظم الإسرائيليين هم في سن الشباب، فإن لهذا الأمر مغزى بالغ الأهمية ونحن نقيم الحالة الإسرائيلية الراهنة، إذ أن هذا يعني أن معظم الجمهور الإسرائيلي ولد وتربّى وعاش في فلسطين التي بات اسمها إسرائيل، بالنسبة للشاب الإسرائيلي وحتى من هم في عمر 68 عاماً، فإنه لا يعرف وطناً له غير اسرائيل ينطق بالعبرية في ظل طفولة وشباب وما فوق دون ان يعرف وطنا آخر، في حين أن اللاجئ الفلسطيني، الذي ولد خارج بلده ووطنه، وباستثناء الحنين والذكريات والشعور بالانتماء لوطن فلسطيني، فإنه تطبع مع المناطق والمخيمات والقرى والمدن والأقاليم التي ولد وتربّى في كنفها، إذا سألت إسرائيليا عن بلده يقول إسرائيل ومدينة تل أبيب أو أشدود أو أشكلون، بينما اللاجئ الفلسطيني، يُعرِّف نفسه أولاً أنه من مخيم كذا في دمشق أو عمان أو الشاطئ في غزة، مع استثناء محدود للمواطن الفلسطيني الذي نجح في البقاء في أرض الأجداد، رغم أن عدداً منهم تم تشريده من موطنه الأصلي واضطر للعيش «لاجئاً» في بلدة أخرى، يشغله الحنين بالعودة إلى قريته أو مدينته التي باتت على مقربة من عينيه في كثير من الأحيان إلاّ أنه لا يستطيع العودة أو العيش فيها! الشاب الإسرائيلي، يعتبر الدفاع عن «وطنه» قضية انتماء واجب، هو مقتنع تماماً بأنه يقوم بالتضحية من أجل العيش في وطنه، وإذا ما تمكن من الاستماع إلى رواية الآخر الفلسطيني، فإن ذلك لا يؤثر في عقيدته وانتمائه إلى وطن لا يعرف غيره، حيث ولد وترعرع وتربّى فيه، وفي أفضل الأحوال، فإن مناطق 1967، هي مناطق «نزاع» بين الفلسطينيين والإسرائيليين، القلة تعتبر أن هناك احتلالاً، بينما أغلبية متزايدة، تعتبر أن الفلسطينيين سبق وأن «احتلوا» هذه المناطق وزعموا أنها حق من حقوقهم.
وإذا كان الكيان الإسرائيلي قد قام بفضل جهود الحركة الصهيونية العالمية، فإن أحد الأسئلة المطروحة في إسرائيل فيما إذا كان قيام الدولة كهدف أساسي وأول من أهداف الحركة الصهيونية يعني أن هذه الحركة، الحركة الصهيونية، بعدما حققت هدفها، فإنها بالتالي قد كفّت عن أن تقود الدولة والمجتمع والفكر الإسرائيلي، فإن الأغلبية من المفكرين والساسة في إسرائيل يعتبرون أن هدف الحركة الصهيونية لم يتحقق بقيام إسرائيل على ما هي عليه الآن، صحيح أن هذه الدولة باتت أكثر استقراراً وقوة ومنعة بسبب التخطيط الجيد لقادة الحركة الصهيونية وقادة الدولة العبرية، وضعف قوى «العدو» من فلسطينيين وعرب من ناحية، لكن من ناحية ثانية، فإن الأحلام والمخططات التوراتية لم تستكمل بعد، سواء فيما يتعلق «بإعادة» بناء هيكل سليمان على أنقاض الأقصى، أو على صعيد حدود الدولة من النيل إلى الفرات، وهذه الأحلام والمخططات، لم تعد من الأساطير والخرافات على ضوء ما وفّرته أحداث السنوات الخمس الأخيرة في المنطقة العربية والإقليمية التي تحيط بالكيان الإسرائيلي، إذ باتت مثل هذه الأهداف أقرب إلى التحقق من أي وقت مضى.
يقال إن إسرائيل، تعمّدت على أن لا يكون لها دستور ينظم حياتها الداخلية على صعيد النظام السياسي، ويقال إن مسألة حدود الدولة، كانت أحد أسباب اللجوء إلى ما يسمى «قوانين الأساس» بديلاً عن دستور ناظم وباستفتاء شعبي أو برلماني، وقوانين الأساس مستمدة من «إعلان الاستقلال» بشكل أساسي وهي غير قابلة للتعديل، وباتت أكثر منعة من الدستور القابل عادة للتعديل. إلاّ أن أحد أهم أسباب عدم لجوء الكيان الإسرائيلي إلى وضع دستور، يعود بدرجة أساسية أخرى إلى هُويّة الدولة، من الناحية الدينية والفقه التوراتي، أو العلماني أو غيرها من الهُويّات، خاصة أن مؤسسي هذه الدولة، اختلفوا حول تعريف من هو اليهودي، وهو الأمر الذي سمح فيما بعد، للفقه السياسي في وضع تعريفات غير محددة لاستقبال يهود مشكوك في هُويّتهم الدينية ولكن مع العام 68 لقيام الدولة، هناك خوف على مستقبلها، وهذا ما سنتناوله في مقال لاحق!!