رئيس التحرير: طلعت علوي

عن التعويضات أيضا!

السبت | 12/12/2015 - 12:26 مساءاً
عن التعويضات أيضا!


عماد شقور

يخطئ الإسرائيليون إذا اعتقدوا أن ما يناضل الفلسطينيون لإقامته، هو منجم له عَلَم ونشيد وطني وأحزاب ورئيس، «يُنتج» عُمّالا ويُصّدرهم للعمل في مصانع نيشر وفنادق تل ابيب، وجمع زبالة نتانيا. ويخطئ الفلسطينيون، إذا اعتقدوا أن أهدافهم الوطنية والذاتية تُنجز وتتحق فور التوصل مع المحتلين إلى «حل الدولتين»، (بعد عمر طويل)، وكنس المستعمرين العسكريين، والمدنيين أيضا، عن 22٪ من أرض فلسطين، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس العربية، بعلمها ونشيدها وبرلمانها ورئيسها كذلك.


عندما يتم ذلك، وهو سيتم بالتاكيد، نصل إلى خضم معركة «الجهاد الأكبر». معركة بناء دولة فلسطينية ديموقراطية مستقلة ذات سيادة. دولة جاذبة لأهلها وللاجئين من شعبها ولأصدقاء شعبها وللمستثمرين الفلسطينيين والعرب والأجانب من كل قارات الأرض لا دولةً طاردة لأهلها متخصصةً في «إنجاب» أطفال و»تصنيع» عمّالٍ وخدم في مصانع ومطاعم وشوارع الأسياد.


دولةٌ معدل الدخل السنوي للفرد فيها، أقل من ألفي دولار بكثير، كما هو الحال في الضفة الغربية وقطاع غزة، هي دولة طاردة لا دولة جاذبة، خاصة عندما تكون جارة لإسرائيل التي يزيد معدل الدخل السنوي للفرد فيها عن 34 الف دولار.
لكن: كيف نصل إلى تحقيق أهدافنا ومصالح شعبنا ومستقبله؟..هذا هو السؤال.
لا طريق يوصل إلى هذا الهدف الوطني السامي إلا طريق التعويضات. التعويضات عن ماذا؟ عن كل عمل غير شرعي قامت به إسرائيل، منذ يوم تأسيسها، وعن كل شيْ استولت عليه، خارج إطار الشرعية الدولية، المتمثلة بقرار التقسيم يوم 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، بدون أي استثناء.


يروي ناحوم غولدمان، رئيس الحركة الصهيونية السابق، ورئيس المؤتمر اليهودي العالمي السابق، (وهو الذي اقترح إنشاء وتشكيل ذلك المؤتمر، وشكّله بعد حصوله على مباركة موسوليني الفاشستي، وبعض القادة الأوروبيين الآخرين، ومنهم بعض قادة المانيا النازية)، أنه وصل إلى إسرائيل في أحد أيام صيف العام 1956، فدعاه بن غوريون إلى عشاء منفرد وسهرة في منزله.


يقول، أو يكتب، غولدمان في كتابه «المفارقة اليهودية» أو المعضلة اليهودية، عمّا دار في ذلك المساء، أنه بادر بن غوريون بالإطراء له، قائلا ما معناه: سيخلدك التاريخ بأنك مهندس دولة إسرائيل، فرد عليه بن غوريون أنْ ربما أنّ ما تقوله صحيح، من حيث الدور السياسي الذي قيّض لي، وتابع: « إلا أن الدولة العصرية لا تقوم على ساق واحدة، الساق السياسية، تلزمها ساق ثانية هي الساق الاقتصادية، وأنت (غولدمان)، مهندس اتفاقية التعويضات من «المانيا الغربية»، وضعت الساق الثانية لهذه الدولة، التي تشكل، مع الساق الأولى، ضمانة لمستقبل إسرائيل».


(يتابع غولدمان رواية ما دار من حديث في تلك الليلة في بيت بن غوريون، فيقول: بدا عليَّ التفاؤل، وكان بن غوريون متشائما. سألته فقال: أعرف تماما أين سأُدفن: في دولة إسرائيل. وعندي تقدير: احتمال كبير أن يدفن ابني عاموس في دولة إسرائيل أيضا. أما حفيدي الون فليس لي ثقة بأنه سيدفن هنا (في دولة إسرائيل). عندها ساله غولدمان: «كيف تنام وكل هذا التشاؤم في رأسك؟»، فردّ عليه بن غوريون: «من قال لك إنني أنام». وبالمناسبة: دفن دافيد بن غوريون، الذي توفي يوم 1.12.1973 (بعد شهرين من حرب اكتوبر المجيدة فعلا)، في كيبوتس سديه بوكر في النقب، قرب بئر السبع، ودفن عاموس، الذي توفي عام 2008 في كيبوتس عينات، المُقام على أراضي قرية راس العين ، وأما الون، فهو المدير السابق لفندق «والدورف استوريا» الشهير في نيو يورك).


وللتّذكير، بل لتعليم، المزاودين الفلسطينيين والعرب أُضيف: يوم 9 يناير/كانون الثاني 1952 ناقش الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي اتفاقية التعويض التي أبرمتها الحركة الصهيونية والمؤتمر اليهودي العالمي، (برئاسة ناحوم غولدمان)، مع المانيا (الغربية)، بزعامة المستشار اديناور. في صباح ذلك اليوم حشدت حركة حيروت جمهورا يهوديا غفيرا في إحدى ساحات القدس الغربية، هدد بيغن، في كلمته للمتظاهرين، باستعمال السلاح في التصدي لاتفاقية التعويضات، لأن دم وأرواح ملايين اليهود الذين أبادتهم المانيا النازية، ليست للمساومة والبيع. وبعد أن ألهب بيغن مشاعر مستمعيه، قادهم في مظاهرة صاخبة نحو مبنى الكنيست، فما كان من الكنيست إلا أن أصدرت قرارا أبعدت بموجبه بيغن من الكنيست ثلاثة أشهر، قضاها في سويسرا.
غريب هو أمر القيادات الوطنية الفلسطينية، بما فيها القيادة الوطنية الحالية بزعامة الرئيس أبو مازن، التي تركّز على مفاوضات الحل النهائي للصراع مع إسرائيل حول «قضايا الحل النهائي» والتي تقتصر على خمسة عناوين: هي القدس والمياه والحدود والأمن واللاجئين، وتنسى(!!) قضية التعويضات، التي لا أتفاجأ أبداً عندما يقدرها خبراء بمئات كثيرة من مليارات الدولارات، هي في واقع الأمر الكفيل «الوحيد» لبناء اقتصاد دولة المستقبل، ورفاهية مواطنيها، وتفتح الآفاق لحاضر ومستقبل من الاستقرار والازدهار.


أغرب من هذا هو حصر التفكير لدى «أُولي الأمر»، في كيفية تأمين رواتب الشهر المقبل، واستسهال مدّ يد الاستعطاء للدول «المانحة». وهم يعرفون أن ما مكّن إسرائيل من أن تصبح ما هي عليه اليوم، هي الدفعات الأولى من التعويضات الالمانية.
قد يكون من المفيد في هذا السياق التذكير بأن إسرائيل، في سنواتها الأولى، عانت من شبه مجاعة، وصلت حد تقنين استهلاك جميع الحاجيات الضرورية للحياة، من مأكل وملبَس، بموجب كوبونات توزع شهريا على العائلات؛ وتَعرّض المخالفون لفترات سجن طويلة، جراء كشف أجهزة تطبيق القانون، وجود دجاجتين مثلا، أوعشر بيضات أو رطل من السكر، في امتعة هذا المواطن أو ذاك. ووصل الأمر حدّ منع «الفريكة» لأنها تُنتج من حبوب القمح قبل اكتمال نضوجها، ما يعني خسارة بحدود 10٪ من الحد الأقصى للمنتوج مكتمل النضوج، وغير ذلك الكثير من الأمثلة التي لا يتسع المجال المخصص لعرضها.


إن المطالبة بالتعويضات، لا تنفي ولا تلغي أي حق آخر، مقدّس أو غير مقدّس. وعدم إثارة قيادة العمل الوطني الفلسطيني لهذا الموضوع، ووضعه على رأس سُلّم اهتماماتها، هو أمر مريب وخطأ فاحش. لكن الأخطر منه، السكوت، الذي يشي بموافقة ضمنية، على ما تريده إسرائيل، بدعم أمريكي واضح، من تنازل مسبق، وتفريط بحق فلسطيني هو في غاية الأهمية: حق المطالبة بالتعويضات من إسرائيل. وأُعطي مثلا على هذا السكوت المريب، يحضُرني الآن: نشرت جميع الصحف الفلسطينية اليومية، في عددها يوم 31.7.2013 ، نصّاً لكلمة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، في المؤتمر الصحافي الذي عقده في واشنطن، يوم انطلاق مفاوضات التسعة أشهر، قال فيه بالحرف: «وقد اتفق الطرفان هنا اليوم على أن جميع قضايا الوضع النهائي، وجميع القضايا الجوهرية وجميع القضايا الأخرى كلها على طاولة التفاوض. وهي مطروحة على الطاولة مع هدف بسيط واحد: من أجل وضع حد للصراع، وإنهاء المطالبات».
لم تكن «المطالبات» الفلسطينية بالتعويضات على طاولة المفاوضات.
حرام.


٭ كاتب فلسطيني
 

التعليـــقات