سلام السعدي
هو ليس فقط التنظيم الإرهابي الأكثر ثراءً على مر العصور، ولكنه أيضاً التنظيم الوحيد الذي استطاع إنشاء آلية منضبطة للتمويل الذاتي. تعمل منظومة داعش الاقتصادية حالياً بمحركين اثنين يعتبر استخراج النفط وبيعه أولهما، فيما يتمثل المحرك الثاني باستغلال السكان وقطاع الأعمال المتواجدين ضمن الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم وذلك عن طريق جباية الرسوم والضرائب (الزكاة) والغرامات. هذا، وتتخذ إيرادات الجباية في منظومة داعش الاقتصادية أهمية متزايدة، حتى أن بعض التقديرات باتت تشير إلى تفوّقها على الإيرادات النفطية التي أضحت هدفاً للقصف الجوي، وهو ما يطرح تساؤلات حول إمكانية استمرار منظومة داعش الاقتصادية وفرص تعطيلها.
يمكن ملاحظة أن التحركات العسكرية للتنظيم ارتبطت بصورة كبيرة بالموارد الاقتصادية في المدن والأرياف السورية حيث سيطر على مناطق إنتاج النفط والغاز والحبوب ومحطات توليد الكهرباء فضلاً عن المناطق التي تحتوي قطع أثرية ثمينة. يتواجد تنظيم داعش في مناطق: دير الزور وريفها، الرقة وريفها، ريف حلب، ريف حمص، وريف الحسكة. ويتيح له هذا التواجد الواسع، والذي يقدّر بنصف مساحة سورية، التحكّم بموارد متنوعة، يمكن عرضها بحسب توزعها الجغرافي.
موارد داعش من المناطق
* الرقة وريفها: يسيطر تنظيم الدولة الإسلامية في مدينة الرقة وريفها على بئر الطبقة النفطي، الذي ينتج نحو 1600 برميل يومياً، يباع البرميل بسعر يراوح بين 15-20 دولاراً، ما يجعل عائدات النفط في هذه المنطقة تراوح بين 24-32 ألف دولار يومياً، بما يصل إلى حوالي مليون دولار شهرياً.
كما يسيطر التنظيم على كل من سدي الطبقة والبعث، وهو ما يتيح له توليد الطاقة الكهربائية التي يمكن أن يستفيد منها في مناطقه فضلاً عن استخدامها في الصفقات التبادلية مع النظام السوري. وقد بلغت مساهمة هذين السدين بالإضافة إلى سد تشرين في ريف حلب والذي يقع أيضاً تحت سيطرة داعش، من إجمالي الطاقة الكهربائية المنتجة في سورية بنحو 9.2 في المئة في العام 2013.
كما يسيطر داعش في الرقة على صوامع البوعاصي وعين عيسى للحبوب، ويتحكّم بالتالي بمخزون كبير من القمح كان يقدّر بنحو 600 ألف طن، تستهلك منه المدينة سنوياً في ظل النزوح السكاني الكبير أقل من مئة ألف طن، بحسب الناشط السوري فراس محمد، الذي يقول لـ"العربي الجديد"، إن التنظيم "يبيع كميات محدودة من القمح المخزّن في الرقة، ويعمل على تشجيع إنتاج القمح، وذلك بعد أن انخفض الإنتاج إلى حدود 300 ألف طن، في حين بلغ نحو 600 ألف طن قبل الثورة".
وفضلاً عن إيرادات النفط والقمح والطاقة الكهربائية، يدير داعش خطاً تجارياً ضخماً يصل الرقة بالموصل وينقل مختلف أشكال البضائع بما في ذلك الخضار والفواكه، ومنها ما هو آت من الأردن، حيث تدفع الشاحنات تعرفة مرور لداعش من أجل تأمين وصولها إلى العراق، وذلك وفقاً لـ"المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية". وبحسب المركز، فإن التعرفة التي يتلقاها داعش على كل شاحنة تراوح بين 200-600 دولار بحسب حجم الشاحنة وحمولتها، وهو ما يوفر له إيرادات تبلغ نحو نصف مليون دولار يومياً.
* ريف دير الزور: منطقة الإنتاج النفطي الأكبر لدى التنظيم، وتحتوي على حقل العمر الذي يعتبر من أكبر الحقول النفطية في سورية والذي بلغت طاقته الإنتاجية قبل اندلاع الثورة نحو 30 ألف برميل. لكن أحد سكان المدينة يؤكد لـ"العربي الجديد"، أن التنظيم لا يستطيع حالياً أن يستخرج أكثر من 8 آلاف برميل من هذا الحقل. يضاف ذلك إلى حقول نفطية أخرى يسيطر عليها التنظيم في دير الزور وتمكّنه من إنتاج ما يراوح بين 20-30 ألف برميل يومياً. يباع البرميل بأسعار تختلف من حقل إلى آخر، ولكن السعر الوسطي هو 30 دولاراً للبرميل. هكذا تراوح إيرادات التنظيم النفطية في هذه المنطقة بين 600-900 ألف دولار.
* ريف الحسكة: يسيطر تنظيم داعش على حقل الجبسة الذي ينتج نحو 2500 برميل يومياً، يباع البرميل بنحو 25 دولاراً، وهو ما يجعل الإيرادات تتجاوز 62 ألف دولار يومياً. كما أعاد التنظيم تشغيل معمل الغاز في حقل الجبسة، وهو ما يمكّنه من تعبئة أسطوانات الغاز وإعادة بيعها. كما يحصل التنظيم على تعرفة مرور من شاحنات النظام السوري التي تنقل الحبوب ومنتجات زراعية أخرى من الحسكة إلى مناطق أخرى في سورية.
* ريف حمص: حاول داعش السيطرة على حقل الشاعر للغاز ونجح في ذلك مرتين قبل أن تستعيده قوات النظام السوري. لكن التنظيم تمكّن في منتصف هذا العام من السيطرة على مدينة تدمر وحقول آراك والهيل التي تنتج الغاز بطاقة تتخطى 3 ملايين متر مكعب يومياً. كما استطاع داعش السيطرة على منجم فوسفات بالقرب من تدمر. "قد لا يتمكن داعش من إنتاج الغاز والفوسفات في هذه المنطقة في ظل ضعف التقنيات والخبرات اللازمة، لكنه قد يوظّف ما بحوزته لعقد صفقات مع النظام السوري"، يقول الباحث معن السكري لـ"العربي الجديد".
كما فتحت سيطرة التنظيم على مدينة تدمر الباب واسعاً لتجارة الآثار التي "تدر أرباحاً طائلة"، بحسب السكري، إذ "نهب داعش مئات وربما آلاف القطع الأثرية الصغيرة والكبيرة التي تعود للحقبة الإسلامية والحقبة الرومانية".
* ريف حلب: يسيطر التنظيم على عدد من صوامع الحبوب التي يستخدمها لإنتاج الطحين والخبز وبيعه. أما الصوامع التي يسيطر عليها في هذه المنطقة فهي صوامع تل حاصل، دير حافر، مسكنة، صرين، الراعي، اخترين، الباب، منبج، وكفرجوم. ويسيطر على سد تشرين ومحطة الكهرباء.
السيطرة على النفط والحبوب
بدأ تنظيم داعش باختراق تجارة النفط مطلع العام 2013 وذلك بالتزامن مع نجاحه في السيطرة على مدينتي الرقة ودير الزور. واليوم يسيطر على 80 في المئة من آبار النفط في سورية، بحسب المنتدى الاقتصادي السوري. يعتبر الخبير الاقتصادي الدكتور أسامة القاضي، أن القدرات المالية "الكبيرة" لتنظيم داعش تعود إلى عمليات السلب والاستيلاء على ثروات البلاد من نفط وغاز.
"أن القدرات المالية "الكبيرة" لتنظيم داعش تعود إلى عمليات السلب والاستيلاء على ثروات البلاد من نفط وغاز"
ويضيف في حديث لـ"العربي الجديد"، أن التنظيم "يسيطر في سورية على 60 حقلاً نفطياً (من أصل 67)، وستة حقول غاز (من أصل 18) وثمانية حقول نفط - غاز (من أصل 11)". الأمر الذي يعني تحكّمه بثروة هائلة جداً، إذ بلغت مساهمة إيرادات النفط في إجمالي الإيرادات العامة السنوية للدولة السورية قبل اندلاع الثورة نحو 20 في المئة.
يفتقد التنظيم للمعدات والتقنيات اللازمة، فضلاً عن العمالة الماهرة، ما يجعله عاجزاً عن الوصول إلى مستويات إنتاج عالية تقارب الإنتاج في العام 2011. مع ذلك، تبقى إيرادات التنظيم كبيرة وتصل إلى 650 مليون دولار سنوياً، إذا اعتبرنا أن التنظيم ينتج نحو 60 ألف برميل يومياً، بحسب معهد "تشاتام هاوس" البريطاني، ويباع البرميل بسعر وسطي يبلغ 30 دولاراً.
مصادر عديدة تؤكد تراجع قدرة التنظيم على الاستفادة من الثروة النفطية، إذ يبدو أن جهود إضعاف منظومته النفطية قد لاقت بعض النجاح في الأشهر الماضية وذلك بسبب "استهداف المصافي النفطية والشاحنات التي تنقل النفط، وعدم قدرة التنظيم على إصلاح الأعطال وافتقاده بصورة متزايدة للمعدات الضرورية لمتابعة الإنتاج"، يقول الناشط السوري خليل شفيع لـ"العربي الجديد". وكان رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال جو دانفورد قد أعلن مطلع شهر كانون الأول/ ديسمبر الحالي تراجع إيرادات تنظيم داعش النفطية بنسبة 43 بالمئة بسبب الضربات الجوية التي قادتها الولايات المتحدة على مدى شهر تشرين الثاني/ نوفمبر.
الرسوم والخوّات على السكان
انخفاض الإيرادات النفطية دفع التنظيم للتركيز على الجباية من السكان وقطاع الأعمال لتشكل حالياً أهم مصادر دخل التنظيم. وتقدّر مصادر أميركية لصحيفة نيويورك تايمز إيرادات داعش غير النفطية بعشرات ملايين الدولارات شهرياً، وهو ما يقارب دخلاً سنوياً يقدّر بنحو مليار دولار سنوياً.
يشير الباحث معن السكري، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن تنظيم داعش "نجح في تطوير نظام اقتصادي مرن يستطيع تجاوز آثار تراجع عائدات النفط بالاستفادة من المساحات الشاسعة التي يسيطر عليها. وإن وقف هذه المنظومة يحتاج إلى دحر التنظيم من مناطق سيطرته، إذ لا تنفع العقوبات الاقتصادية على المتعاملين مع التنظيم ولا الطائرات الحربية".
يجبي داعش الرسوم من كل السكان في مناطق سيطرته، وإن كان لا يفرض رسوماً كبيرة، بحسب الدكتور القاضي، إذ "تتم جباية 200 ليرة سورية فقط في مناطق سيطرته في ريف حلب من أجل المياه وسعر الصهريج (10 براميل) بـ500 ليرة سورية، وأما فاتورة الهاتف فهي 200 ليرة سورية شهرياً". ويضيف أن "أجواء الأمان النسبي التي حققها في مناطقه، بالتنسيق مع النظام السوري، انعكست إيجاباً على الحركة الاقتصادية". لكن التنظيم يجني رسوماً أعلى من ذلك في محافظة الرقة، بحسب تقرير خاص بحملة "الرقة تُذبح بصمت"، إذ قال التقرير إن الرسوم هي على الشكل التالي: "كل منزل في مدينة الرقة يجب أن يدفع 800 ليرة سورية فاتورة كهرباء و400 ليرة فاتورة هاتف. كما يدفع كل محل تجاري 1500 ليرة فاتورة كهرباء ونظافة وأمن و400 فاتورة هاتف". كما يجني التنظيم الزكاة من قطاع الأعمال وبنسب عالية، ففي حين يحدد الشرع الإسلامي نسبة الزكاة بـ2.5 في المئة من الأرباح، يقتطع داعش نسبة 10 في المئة ويتذرّع بأن "الأمة في حالة حرب"، بحسب ما يقول أحد سكان الرقة لصحيفة نيويورك تايمز.
"كل منزل في مدينة الرقة يجب أن يدفع 800 ليرة سورية فاتورة كهرباء و400 ليرة فاتورة هاتف، كما يدفع كل محل تجاري 1500 ليرة فاتورة كهرباء ونظافة وأمن و400 فاتورة هاتف"
يقدّر معهد "راند" الأميركي إيرادات داعش غير النفطية في مدينة الموصل وحدها عام 2014 بنحو 600 مليون دولار، ويتجاوز ذلك بأشواط إيرادات الإنتاج النفطي في تلك المدينة. لا توجد تقديرات محددة بما يخص المناطق التي يسيطر عليها داعش في سورية، ولكن باعتبار أن نسبة السكان في الرقة حالياً تشكل نحو 35 في المئة من نسبة السكان في الموصل، يمكن تقدير إيرادات داعش غير النفطية فيها بأكثر من 200 مليون دولار سنوياً، تضاف إلى ذلك إيرادات مماثلة من بقية المناطق التي يسيطر عليها التنظيم في سورية.
يقول السكري إن تلك الإيرادات تتحقق عن طريق "جباية رسوم دخول وخروج على البضائع، ورسوم الخدمات المقدمة، فضلاً عن غرامات الإخلال بالقوانين بدءاً من قانون السير وصولاً إلى غرامات التدخين والتأخر عن الصلاة واللباس المخل بالآداب العامة". فيما يشير تقرير لصحيفة ديلي ميل البريطانية إلى أن التنظيم يقوم بزراعة "الحشيش" في ريف الرقة وبيعه لاحقاً للتجار. وتورد حملة "الرقة تُذبح بصمت" أن التنظيم استثمر في شبكة الإنترنت فارتفع عدد مقاهي الإنترنت خلال فترة وجوده من 20 مقهى إلى 500. كما يفرض التنظيم رسوماً على جميع البضائع الخارجة والداخلة إلى محافظة الرقة، بالإضافة للرسوم على الشاحنات التي تعبر باتجاه العراق والآتية من خارج الرقة. وتنقل صحيفة نيويورك تايمز عن سائق شاحنة تبريد محمّلة بالمثلجات آتية من الأردن إلى العراق أنه يدفع مبلغ 300 دولار رسم عبور ويتلقى مقابله إيصالاً مختوماً من قبل "الدولة الإسلامية".
ويعتبر الدكتور أسامة القاضي أن استمرارية تنظيم داعش على المستوى الاقتصادي مرهونة بـ"استمرار تحكّمه بالموارد الاقتصادية، وبأن يبقى النظام السوري يدفع رواتب موظفي المؤسسات السورية ويتجنب قصفه، ذلك أن المنظومة الاقتصادية للمناطق التي يسيطر عليها داعش تقوم على مزيج من الأمن الشخصي والأمن العسكري والبعد عن التدخل في الحياة الاقتصادية، ومثل هذه المنظومة من الممكن أن يُكتب لها النجاح لو استمرت".
فيما يعتبر تقرير لـ"كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية (LSE)"، أن العنصر الأساسي في نجاح تنظيم داعش هو أنه عندما يسيطر على منطقة ما فإنه يتصرف "بوصفه الجهة الوحيدة صاحبة المسؤولية في هذه المنطقة". وفضلاً عن احتكار القوة في مناطقه، يعمل التنظيم، بحسب التقرير، على "تطوير نموذج شامل ومتكامل في مكوناته لإدارة ما يشبه الدولة". ويعتبر أن الجهود الرامية إلى تجفيف مصادر التمويل الخارجي للتنظيم غير كافية وتدفعه "لاعتماد طرق أكثر عنفاً للسيطرة على المزيد من الموارد في سورية". ويشير التقرير إلى أن المطلوب هو إنهاء حالة "فشل الدولة" التي يستفيد منها تنظيم الدولة الإسلامية واستعادة الحوكمة في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة.
alaraby.co.uk