وليد خدوري
بدأت الصين منذ أوائل 2000، أي منذ الأشهر الأولى لهذا القرن، تحتل مركزاً مرموقاً على صعيد الاستهلاك العالمي للنفط، وهي زادت استيرادها من النفط في شكل واسع خلال السنوات الـ15 مذّاك. لكن الصين بدأت في الواقع الزيادة التدريجية لاستيرادها من النفط منذ منتصف التسعينات، وأخذت هذه الزيادة تتوسع سنوياً لتصبح الصين بعد عقدين من الزمن، تحديداً في أيلول (سبتمبر) 2013، أكبر دولة تستورد النفط في العالم، إذ زاد معدل استيرادها للنفوط بوتيرة أعلى مقارنة به في الولايات المتحدة، التي كانت تحتل المرتبة الأولى حتى ذلك الوقت، علماً أن الاستيراد الأميركي للنفط الخام بدأ حينئذ نظراً إلى الإنتاج العالي والسريع للنفط الصخري.
تأثرت التجارة العالمية للنفط بهذه المتغيرات في البلدين الرئيسين في مجال استهلاك الطاقة. مثلاً، اطمأنت الدول المصدرة إلى وجود سوق نفطية ضخمة في الصين تعوّض انحسار الاستهلاك في الولايات المتحدة والدول الصناعية الغربية الأخرى. غير أن الولايات المتحدة لا تزال تحافظ على مركزها، فهي أكبر دولة مستهلكة للنفط في العالم، إذ تستهلك نحو 20 مليون برميل يومياً، مقارنة بالصين التي تستهلك 11 مليون برميل يومياً.
لكن على رغم هذا التفاوت الضخم في حجم الاستهلاك، يثير النمو الصناعي المستدام والضخم في الصين اهتمام كثير من الدول وكثر من الاقتصاديين، خصوصاً في ما يتعلق بقدرة الصين على الاحتفاظ بمعدلات نمو عالية، فالتطورات هناك مهمة جداً لمجالات كثيرة في الاقتصاد العالمي، من بينها تجارة النفط.
مثلاً، علّق بن برنانكي، الرئيس السابق لمجلس الاحتياط الفيديرالي الأميركي، على الأمر في «مدونة» له ينشرها «معهد بروكينغز» في واشنطن، بأن طرح سؤالاً في ظل التكهنات العديدة حول التباطؤ الحالي للنمو الاقتصادي في الصين مقارنة بما كان عليه سابقاً: هل يمكن أن تتحول الصين من دولة صناعية إلى دولة خدمات؟
وقال برنانكي: «منذ بدء المعجزة الاقتصادية في الصين، اعتمد النمو الاقتصادي على تعليمات من المركز. لكن هذا النمو هرمي، أي أن القرارات تصدر من أعلى مستويات الدولة إلى أسفلها، وجرى التركيز على الصناعات الثقيلة والبنية التحتية (الطرق السريعة والجسور والمطارات)، وهجرة السكان من الريف إلى المدن، وتشجيع الصادرات، خصوصاً الصناعية.
وتأثر هذا النوع من النمو بالتخطيط المركزي الشيوعي، لكن الصين استطاعت موازاة هذا التخطيط المركزي بتحرير كافٍ للأسواق وانفتاح على المنافسة العالمية من أجل الحصول على إنتاجية عالية وصعود سريع في المجال التقني». واعترف برنانكي بأن استراتيجية الصين هذه نجحت نجاحاً باهراً حتى الآن، إذ توسع الاقتصاد الصيني مرتين ونصف مرة خلال عقد من الزمن، فبات يشكل حالياً نحو ثلث نمو الاقتصاد العالمي.
لكن، يضيف برنانكي، لنموذج النمو الهرمي حدوده. فحصة الإنتاج المخصصة للصناعات الثقيلة والتعمير والصادرات كبيرة جداً، ويصعب الاستمرار بها. وفي الوقت ذاته، بدأت سرعة التحضر وبناء المدن تضعف، إضافة إلى الوصول إلى حال من التشبّع في تحسين التقنية في قطاع الصناعة والقطاعات ذات العلاقة. ويصحّ الأمر ذاته في ما يتعلق بالاستثمارات الرأسمالية والتصدير، بدلاً من الاهتمام أكثر بتزويد الأسواق المحلية بالبضائع والخدمات، بمعنى التوجه أكثر إلى المستهلك المحلي.
وقال برنانكي في هذا الصدد: «لم يخدم الاقتصاد الصيني مواطنيه جيداً وبما فيه الكفاية، لكن المهم أن القيادة الصينية تعمل ليكون هذا الانتقال من مرحلة الصناعات الثقيلة والتصدير إلى مرحلة مترابطة وعضوية من التجارة الداخلية، ويكون نموذج التغيير هذه المرة من الأسفل إلى الأعلى، ويكون التركيز على تطوير قطاع الخدمات من تجارة التجزئة والصحة والتعليم والمالية والمواصلات. والمهم هنا هو تأمين هذه الخدمات الأساسية للمواطنين من طريق الأسواق المحلية ووحدات تجارية صغيرة (التعاونيات والتجار الصغار)».
وأشار برنانكي في هذا الصدد، إلى «أن الإنتاجية في قطاع الخدمات لا تنمو بالسرعة ذاتها مثل نمو القطاع الصناعي، فالنمو الاقتصادي يكون أبطأ. ونظراً إلى الاعتماد الأكبر على عوامل السوق والوحدات التجارية الصغيرة، يُتوقَّع أن ينمو الاقتصاد الصيني مستقبلاً في طرق غير مستقرة، وسيكون صعباً على القيادات العليا أو المركزية السيطرة عليها أو توجيهها».
تقدّم أطروحة برنانكي في حال صحتها، تحدياً جديداً ومهماً للاقتصاد العالمي، فهي طرحت أسئلة كثيرة حول مدى إمكان استمرار نمو معجزة الاقتصاد الصيني. فأي تغييرات أساسية في منحى هذا الاقتصاد ستترك بصماتها على الصناعة الدولية للنفط؟
نقلا عن الحياة