رئيس التحرير: طلعت علوي

الصيدلة في قطاع غزة، سوق مفتوحة وشهادات مؤجرة

الإثنين | 28/09/2015 - 07:58 صباحاً
الصيدلة في قطاع غزة، سوق مفتوحة وشهادات مؤجرة

فادي الشافعي

 

قبل أن يكتشف مهاراته وقدراته الدراسيّة، يجد الطالب نفسه مجبراً على الاختيار بين الفرعين العلميّ أو الأدبيّ في مدارس التّعليم العالي، فلا يقدّم إليه النّظام التعليميّ أو الإجتماعيّ وصفاً دقيقاً وعلميّاً للفرق بين الفرعين – العلميّ والأدبيّ- فتؤدّي الأسرة والأقران دوراً رئيسيّاً في تكوين سرديّة إجتماعيّة تعتمد على ثنائيّة: الفرع العلميّ للطلاّب ذوي التّحصيل الدراسيّ العالي، والفرع الأدبيّ للطلاّب ذوي التّحصيل الدراسيّ الأقلّ. ويتماشى الطالب مع هذا التّصنيف المشوّه، ويستمرّ في دفع ضريبة هذا التّضليل في المرحلة الجامعيّة وفي سوق العمل بعد ذلك، حيث أنّ الطالب يختار تخصّصه في الغالب بناء على السرديّات والكلاشيهات الإجتماعيّة المحليّة السائدة، وليس نتيجة معرفته بميوله العلميّة أو قدراته المهاريّة والذهنيّة. ونتيجة لهذا التّضليل الإجتماعيّ، تضليل الأسرة والأقران، يجد الطالب نفسه تائهاً في تخصّص لم يكن ليختاره يوماً لو كان هذا الاختيار واعياً وقائماً على معرفة بقدراته ومهاراته الحقيقيّة من جهة، وبطبيعة التخصّص وسوق العمل الّذي سينتهي إليه بعد التخرّج من جهة أخرى، يشكل هذا التوصيف اشكالية لا تقتصر على قطاع غزة ولا حتى على فلسطين فحسب بل تمتد لتشمل أغلبية البلدان العربية.

 

ويمكن أيضاً إسقاط هذا التّوصيف العام على خرّيجي كليّة الصيدلة وطلاّبها. وفي هذا السّياق، أشار الصيدلانيّ خليل هاشم لـ"المونيتور" إلى أنّ انتسابه إلى كليّة الصيدلة رافقه جهل تام بسوق العمل، الّذي سيتأهّل إليه بعد التخرّج، وقال: "لو خيّرت مرّة أخرى لاخترت تخصّصاً آخر بخلاف بكالوريوس الصيدلة، ففي قطاع غزّة شهادة بكالوريوس الصيدلة لا تتعدّى كونها رخصة حكوميّة للتجارة بالأدوية، وسوق العمل للصيدلانيّ محصور بين بيع أو تسويق المستحضرات الطبّية، في ظلّ توقّف عمليّة التّوظيف الحكوميّة في المؤسّسات التّابعة للسلطة الفلسطينيّة في قطاع غزّة بسبب الخلاف السياسيّ بين حركتي "فتح" و"حماس" وتوقّف عدد كبير من مصانع تحضير الأدوية بسبب الحصار الإسرائيليّ على قطاع غزّة. الحلّ الوحيد أمام الصيدلانيّ هو امتلاك صيدليّة عامّة، ومشروع امتلاك صيدليّة تبلغ تكلفته من 20-40 ألف دولار أميركيّ، ومن المستحيل أن يتملك هذا المبلغ صيدلانيّ تخرّج حديثاً"

في فلسطين حاليّاً حيث لا يمنح الترخيص إلا لصيدلاني "حاصلاً على شهادة البكالوريوس في علوم الصيدلة أو ما يعادلها من كلية معترف بها" فيتعاقد الصيدلاني مع أحد المستثمرين على أن يقدّم الصيدلاني شهادته للحصول على ترخيص مقابل أن يقوم المستثمر بدفع التكاليف اللازمة لإنشاء الصيدلية، يتم ذلك من خلال عقد شفهي أو مكتوب بين المستثمر و الصيدلاني وهذا ما يطلق عليه محلياً تأجير شهادة الصيدلة حيث يتعارض هذا الاتفاق مع نظام مزاولة مهنة الصيدلة في فلسطين ويقع هذا التعاقد ضمن الحالات المذكورة في المادة رقم 9 حيث يحق لوزارة الصحة إلغاء الترخيص " إذا ثبت أن المالك الحقيقي للمؤسسة الصيدلانية ليس الشخص الذي منح له الترخيص بامتلاكها وفقاً لأحكام هذا النظام"

فيلجأ عدد كبير من الصيادلة لتأجير من أجل الحصول على فرصة عمل أو زيادة الدخل وتتعدّد نوعيّة المسستثمرين المستأجرين لشهادات الصيدليّة فمنهم تجّار يرغبون الدخول لسوق تجارة الأدوية، وهناك عدداً آخر من المستأجرين هم صيادلة بالفعل يمتلكون صيدلية عامة ويرغبون باستثمار أموالهم بامتلاك أكثر من صيدليّة عامّة حيث يمنع نظام مزاولة مهنة الصيدلة في فلسطين الصيدلاني من امتلاك أكثر مؤسسة صيدلية، رغم أن هذا النوع من الاستئجار يتم بين صيدلاني وصيدلاني إلا أنه يتعارض مع البند (أ) من المادّة 16 في نظام مزاولة مهنة الصيدلة في فلسطين والتي تنص على وجوب " أن يكون مالك الصيدلية العامة صيدلي مرخص، ولا يجوز له أن يمتلك أكثر من مؤسسة صيدلية واحدة في فلسطين"

وقد أجرى "المونيتور" مقابلات مع عدد من الصيادلة، الّذين قاموا بتأجير شهاداتهم، وظهر خلالها وجود نوعين من أنماط تأجير شهادات الصيدلة في قطاع غزة ، الأوّل: تأجير الشهادة لأحد المستثمرين مقابل أن يعمل عنده الصيدلانيّ كموظّف بالساعة، حيث يتقاضى الصيدلانيّ في هذه الحالة ما يقارب دولار واحد في الساعة ويعمل بمعدل 5-10 ساعة يومياً، أو يتم الإتّفاق على تقسيم الربح بنسبة معيّنة يتفّق عليها الصيدليّ مع المستثمر. يتمّ الإتّفاق شفهيّاً من دون عقد مكتوب، ولا يمتلك الصيدلانيّ صاحب الشهادة المؤجّرة والعامل كموظّف في الصيدليّة الّتي يعود ربحها وإدارتها للمستثمر، حقّ التّعاقد مع شركات الأدوية أو معرفة مصادر الأدوية الّتي يبيعها، أيّ تقتصر مهام الصيدلاني كبائع أدوية. وفي المقابل، تقع على عاتقه المسؤوليّة القانونيّة كون المنشأة/الصيدليّة مرخصة باسم الصيدلاني صاحب الشهادة المؤجرة في دائرة الإجازة والتّرخيص التّابعة لوزارة الصحّة، وقد لاحظ المونتيور من خلال المقابلات التي اجراها أن غالبية المؤجّرة شهاداتهم ضمن هذا النّمط من الذكور.

وفي ذات السّياق، زار "المونيتور" إحدى الصيدليّات الكبرى في مدينة رفح، وتحدّث إلى صيدلانيّ شاب تخرّج في عام 2008 من كليّة الصيدلة بجامعة الأزهر، حيث أقام عقد استثمار شفهيّ مع أحد التجّار في المدينة، فساهم الصيدلانيّ الشاب بشهادته ليتمّ ترخيص الصيدليّة باسمه وقدّم التاجر تكاليف التّجهيز وشراء الأدوية، مقابل نسبة ربح مقتطعة للصيدليّ.

وفي لقاء مع صيدلانيّ آخر طلب عدم ذكر اسمه قال لـ"المونيتور": "شهاداتنا تستخدم كرخصة لتجارة الأدوية في قطاع غزّة من قبل المستثمرين، لكنّي مضطر إلى تأجير شهادتي، فأنا لا أمتلك القدرة على إنشاء صيدليّة عامّة، وتأجير الشهادة يوفّر لي فرصة عمل، حتّى وإن كانت براتب لا يتعدّى الـ300$ شهريّاً". مقسمة بين 150$ شهرياً ثمناً للشهادة المؤجرة، و الـ150$ الأخرى يتلقاها كراتب مقابل العمل لمدة 5 ساعات يومياً في الصيدلية المرخصة باسمه والتي تعود ملكيتها للمستثمر.

أمّا النّمط الثاني فهو تأجير الشهادة بعقد مكتوب من دون العمل أو المتابعة من قبل الصيدلانيّ، الّذي تم ترخيص المنشأة/الصيدليّة باسمه من قبل وزارة الصحة، وقد لاحظ المونيتور أن هذا نمط أكثر شيوعاً بين الصيدلانيّات الإناث، بسبب النظام الاجتماعي التقليدي الذي يربط خروج المرأة للعمل بمدى قدرتها على احداث فارق في مستوى دخل الأسرة، فتلجأ الصيدلانيات لتأجير شهاداتهن والحصول على 150$ شهرياً دون الخروج للعمل. وفي هذا السّياق، أشارت الصيدلانيّة وفاء يوسف لـ"المونيتور"، إذ قامت بتأجير شهادتها بعقد مكتوب لآخر إلى "أنّها في البداية كانت ترفض تأجير شهادتها بسبب رغبتها بامتلاك صيدليّة عامّة هي من يموّلها ومن يشرف عليها، إلاّ أنّ بعد تخرّجها بثلاث سنوات تزوّجت واضطرّت إلى تأجير شهادتها بهدف زيادة الدخل". وتؤجّر وفاء شهادتها مقابل 150$ دولاراً شهريّاً.

وعند الحديث معها عن معرفتها بقانونيّة أو عدم قانونية هذا الإجراء، قالت "إنّ غالبيّة زميلاتها الّلواتي درسن معها أقدمن على تأجير شهاداتهنّ بسبب عدم مقدرتهنّ لتوفير تكاليف امتلاك صيدليّة خاصّة، فيلجأن إلى تأجير شهاداتهنّ"، وإنّها لا ترى في ذلك أيّ مانع قانونيّ. لقد تخرّجت وفاء من جامعة الأزهر بغزّة في عام 2005 وتقيم في مدينة رفح.

إن الاشكالية تكمن في استغلال المستثمرين للظروف الاقتصادية والاجتماعية في قطاع غزة، واقحام مهنة الصيدلة ضمن عملية تجارية يحكمها العرض والطلب والمضاربة التجارية، فالمستثمر يهمه البيع السريع بهدف تحقيق الربح السريع بغض النظر عن اخلاقيات المهنة وجودة المستحضرات الطبية، بالإضافة إلى ذلك وفرت عمليات تأجير شهادات الصيدلة بيئة خصبة لإدخال اشخاص غير مؤهلين لممارسة مهنة الصيدلة. ونتيجة لعدم وجود قوانين واضحة تجرّم تأجير شهادات الصيدلة يبدو أنّه تمّت إحالة هذه الإشكاليّة على المستوى الأخلاقيّ الدينيّ، فقد صدر عن دار الإفتاء الفلسطينة فتوى دينيّة تنصّ على عدم جواز تأجير شهادات الصيدلة، واعتبرت الشهادة ملكيّة فرديّة، وأنّ تأجيرها نوع من أنواع الغش.

 

 

 

.al-monitor.com

التعليـــقات