بثينة حمدان
تُعرف بأنها عَرًّابة جنين، كانت مركزاً لمدن الكراسي العثمانية بزعامة عائلة عبد الهادي الاقطاعية من فلسطين وحتى بلاد الشام. فيها سهل عرابة ثاني، أكبر سهول فلسطين، وفيها خزان الضفة الغربية من المياه الجوفية المصادَر كلياً من الاحتلال الاسرائيلي، وفيها أضاع البطيخ الاسرائيلي – الكيماوي - بطيخ عرابة البلدي الذي تغنى به باعة الخضار لفترة طويلة فكانوا يقولون: «عرابة يا بطيخ.. ريحاوي يا موز». تستغرق المسافة ساعتين من رام الله إلى بلدة عرابة قضاء محافظة جنين، وهناك عرابة البطوف داخل الـ 48ـ وتشمل المرور على حاجزي حوارة وزعترة القاسيين. انطلقنا وصديقتي اسلام العارضة المقيمة مع زوجها وابنائها أحمد ومحمد وليان في رام الله، ابنة عرابة، التي كانت تتوق لتراها بشكل مختلف عبر جولة القبس، وفي محاولة لتكون دليلاً عن البلدة وأهلها الطيبين. وصلنا مقر البلدية، قابلنا رئيسها الشاب أحمد العارضة، وعلى مكتبه مجسم لأحد مداخل البلدة المصمم على شكل مبنى بدعم من رجل الأعمال سمير عبد الهادي الذي تبرع بمليوني دولار لبناء المدخل وتنفيذ مشاريع لعل أبرزها ترميم قصور «عبد الهادي».
العائلة وأمجادها
لا ينتهي الحديث عن إرث وتاريخ العائلة في حضرة عدد من أعضاء المجلس البلدي. فهي عائلة إقطاعية وصل نجمها حدود السماء في القرن الثامن عشر ابان الحكم العثماني، وحكم مصر بقيادة محمد علي باشا الكبير وابنه ابراهيم باشا ومغامرته إلى فلسطين.
كانت الدولة العثمانية تمنح شرف ولاية أي منطقة تبعاً لنفوذه في منطقته وقدرته على جباية الضرائب وفرض الأمن، ووصل حكم العائلة إلى مدن بلادالشام،
بل أكد الحضور أن العائلة امتلكت ما بين 3 ـ %5 من مساحة فلسطين التاريخية.
رحيل آل عبد الهادي المكاني!
في الوقت الحالي لا يوجد سوى ثلاثة منازل من آل عبد الهادي يسكنون القرية، فقد رحل معظمهم مكانياً عنها نتيجة للصراعات على النفوذ بين مشايخ فلسطين مع تراجع حكم العثمانيين، لاسيما الصراعات مع عائلتي «طوقان» و»جرَّار» كبرى عائلات نابلس، حيث تمركزوا في نابلس وأصبحوا يذكرون من كبرى عائلتها ولديهم قصور ومنازل كثيرة فيها. العائلة منتشرة أيضاً في أنحاء العالم، لا سيما الأردن والإمارات ويمتلكون العلم والمال والثقافة.
قصور عبد الهادي.. مركزاً ثقافياً
انطلقنا من البلدية برفقة سعيد حجة أمين مكتبة البلدية، الذي علّم نفسه كيف يكون دليلاً سياحياً للبلدة عبر الاطلاع والمثابرة. سرنا بين البيوت والقصور القديمة إلى قمة تل عرابة ودخلنا قصر عبد القادر يوسف عبد الهادي، الذي بني عام 1837، وهو من بين ثلاثة عشر قصراً للعائلة بقيت في البلدة.
سرنا ما بين غرف الحرملك (المخصصة للحريم)، والسرملك (للرجال)، إلى أن وصلنا غرفة الشيخ، وهو حاكم المكان المتنفذ. كان سقف غرفته مختلفاً وعلى شكل عمامة، وفيها باب سري موجود داخل خزانة، يتيح له التنقل من قصر لآخر عند اللزوم.
المكان عبارة عن لوحة فنية ثقافية، فهو اليوم مركز ثقافي، ومكتبة للأطفال. أما هذه القاعة الكبيرة فخصصت للمعارض، حيث ينظم فيها حالياً معرض للارشاد التربوي. كان المرشد التربوي معاذ العارضة يتحدث للطلبة الزوار من القرى القريبة عن الاختيار الصائب لطالب الصف العاشر، والذي يقف على مفترق طرق للاختيار ما بين الفروع: الأدبي والعلمي والمهني والتجاري والصناعي.
الشيخ حسين الذي درس
في جامعة السوربون
ارتبط اسم القرية بأبرز أفراد عائلة عبدالهادي، وهو الشيخ حسين، الذي كان من أقوى القيادات ليس في فلسطين فحسب، بل وبلاد الشام، وهو أول من درس في جامعة السوربون في فرنسا في خمسينات القرن الثامن عشر. وقد بنى جسراً وقربه مزرعة، لتسيهل خروج ودخول الحجاج من وإلى فلسطين، وهو حالياً الجسر الشمالي بين اسرائيل التي تستولي عليه والأردن، والمخصص لمواطنيها والأجانب فقط.
والدة أسير والصورة الاستثنائية
كانت والدة الأسير سامي العريدي، المحكوم بالسجن 19 عاماً، تجلس بكامل ابتسامتها.. تصر على أن نأكل الكعك، ولا يكفيها أن نتناول قطعة واحدة، ولا حتى ثلاثاً. عُلّ.قَت خلفها
صورة سامي قبل اعتقاله، وسيماً، ممتلئ الوجه، وعلى الجدار المقابل كانت صورته ووالدته في السجن قبل نحو عامين، يبدو فيها نحيفاً أجهده الاعتقال والمرض.
كانت الصورة استثنائية جداً، تبدو فيها أم سامي شاحبة ومضيئة في آن معاً. فطوال فترة السجن يسمح الاسرائيليون بزيارة شخص واحد يرى الأسير من خلف فاصل زجاجي، وسماعة الهاتف هي آداة الاتصال، ويسمحون بالصورة بلا فواصل سنوياً مع أحد الأقارب من الدرجة الأولى.
احمرت عيونها وهي تحاول وصف هذا القرب المفاجئ والطبيعي كما يفترض بين أم وابنها، لكنه ليس كذلك تحت الاحتلال.
لم تعرف من أين تبدأ حين اقتربا: «هل أشمه أم أقبله أم أحضنه؟». قالت أيضاً: «ذهبت مرة لزيارته فكان قد نقل إلى مشفى الرملة، عدت دون أن أراه. لم أشاهده منذ عامين بسبب صحتي ونقله إلى سجن النقب البعيد، ولا يسمح لاخوته بزيارته.. يارب أشوفه قبل ما أموت».
عرابة يا بطيخ!
سهل عرابة هو ثاني أكبر سهل في فلسطين، بعد مرج بن عامر، الذي استولت عليه اسرائيل، وقد أخبرنا عنه أحمد عبيد، مسؤول قسم المساحة في البلدية، حيث تبلغ مساحة البلدة 45 ألف دونم، منها 33 ألف دونم مساحة السهل، أما المنطقة الجبلية ومساحتها سبعة آلاف فمزروعة بالزيتون، فيما يزرع السهل بالحبوب والخضار والفواكه الموسمية. اشتهرت عرابة بالبطيخ الذي كان يصدر للعالم العربي، إلا أن البطيخ الاسرائيلي المزروع في الدفيئات بأحجامه المختلفة، وذلك الخالي من البزر وعلى مدار العام، كل هذا جعل زراعة البطيخ البلدي تتراجع، فكان عام 1987 آخر عام لزراعته في عرابة. هذا عدا عن المياه الجوفية في السهل، التي استولت عليها اسرائيل، ويمكن أن تكفي الضفة الغربية. حتى ان أي مزارع يحفر بئراً في أرضه للاستفادة من المياه، تقوم اسرائيل فوراً بإغلاقه.
احتلال حتى طقوس موسم الزيتون!
اعتاد المزارع ناصر عز الدين وعائلته أن يعيشوا الموسم بكل طقوسه؛ يخرجون باكراً، معهم بعض الطعام وكانون الصغير لإعداد الشاي والقهوة، وصنع خبز الطابون، لكن هذا يتبخر بسبب منع الاحتلال المزارعين، الذين تقع أراضيهم قرب مستوطنة «مافو دوتان»، من إشعال النار، وقد يطاردهم الجيش والمستوطنون في أي لحظة، لذا عليهم أن يستعدوا للرحيل.
ناصر يمتلك 27 دونماً، وعليه دائماً أن يحصل على تنسيق وموافقة اسرائيلية للوصول إلى زيتونه المحاذي للأسلاك الشائكة المحيطة بالمستوطنة، بل إنه حرم سابقاً من الوصول إليها على مدى خمس سنوات. اليوم يصل أرضه فقط في موسم الزيتون. وقد أكد لنا رئيس البلدية أن اسرائيل خلعت ألفي شجرة زيتون في القرية، وصادرت 500 دونم لمصلحة المستوطنة، وصادرت 300 دونم مخصصة لرعي الأغنام.
زيارة استثنائية لامرأتين
إلى مدرسة الذكور!
كانت فكرة دخول فتاتين مدرسة للذكور في عمر يبحثون فيه عن نصفهم الآخر، فكرة استثنائية في مجتمع محافظ، فقال لنا سعيد حجة، ونحن نخرج من ازدحام نظرات الفتيان وابتساماتهم، انه كل خمس سنوات قد تدخل امرأة المدرسة لتشكل الزيارة حدثاً للطلبة. كنا نبحث عن أشخاص مبدعين مميزين، منهم وائل عبدالخالق (15 عاماً) الأول على المدرسة، يحلم أن يصبح جراحاً للقلب، أما محمد حمدان عارضة (15 عاماً) فيعشق كرة القدم ويبدع في خط الدفاع، وقد لعب فريق مدرسته مع مدرسة الزبابدة القريبة وتفوق، كما شارك في سباق الضاحية الأول مؤخراً.
لولا الاحتلال لأصبحت لاعباً دولياً
حدثنا عن أحلامه: «لولا الاحتلال لكنت ألعب في الخارج لاعباً دولياً». وائل ومحمد يشتركان في حلم واحد، وهو أن الأجمل يتحقق خارج الحرب والدمار. يقول محمد: «نحن نعيش في سجن، الكثير من اقاربي استشهد واعتقل، في كل مكان هناك حواجز عسكرية، وكي نزور بلادنا الجميلة مثل يافا والقدس علينا أن نحصل على تصريح».
أما الطفل علام (10 سنوات) فقد ألقى لنا قصيدة شعر تجمع عذابات فلسطين في سطور، بلسان قد لا يدرك كل معاني القتل التي رددها أو قد يدركها جيداً، لأنها تحيط به، قصيدة «فلسطين الجريحة» كتبتها أخته وتدرب هو على إلقائها.
بسمة عرابة.. سيّدة
اتجهنا إلى منزل آيات المطل على سهل البلدة الأخاذ. استقبلتنا بالترحاب وتجولنا في بيت الضيافة الذي تديره مع زوجها. كانت سعيدة، وهي تخبرنا عن البيت الذي افتتحته قبل عام من الان، وأصبحت تستقبل طلبات للحجز عبر الانترنت من السياح الأجانب. كان بينهم سائح ألماني غضبت زوجته من فكرة قدومه إلى فلسطينن حيث الحرب والموت، لكنه أرسل لها صوراً وهو يأكل مع عائلة آيات البشوشة، وكتب لها «أنا في بلد الحرب»، فكان الأمر مفاجئاً للزوجة.
آيات قضت الليلة الماضية وزوجها وهي تعد الفطائر، آلة العجين تعجن وزوجها يقطع، وهي تحشو القطع بالزعتر والجبن والسبانخ، يخبزانها معاً، ويستيقظ زوجها باكراً لتوزيع 700 شطيرة على المدارس. أكلها اللذيذ جذب الأجانب وأهالي القرية إليها، لا سيما المفتول والأوزي والتبولة وورق العنب.