رئيس التحرير: طلعت علوي

مصر ستندم كثيرا عن صمتها لما يجري بشرقها وجنوبها وغربها ونيلها

السبت | 10/03/2018 - 07:26 صباحاً
مصر ستندم كثيرا عن صمتها لما يجري بشرقها وجنوبها وغربها ونيلها


محمد خضر قرش – القدس

تتبوأ مصر، كما هو معروف، موقعا ومكانا استراتيجيا في غاية الأهمية في الشرق الأوسط والعالم. وهذه الأهمية تنبع من تاريخها وموقعها الجغرافي المتميز بين أبرز مفاصل ومحطات القارات والتي تتسم بدرجة عالية من عدم الاستقرار مما شكلت مطمعا دائما ومبكرا للدول الاستعمارية الغربية والغازية العديدة. وقد شكلت مصر الحافظة الوطنية للعروبة وسدا قويا لمواجهة الاستعمار وعاملا مساعدا فعالا لاستنهاض القوى وفي المقدمة منها حركة التحرر العربية. فلا نضيف جديدا إذا قلنا بان من يملك ناصية مصر أو التأثير عليها أو يضمن صمتها على الأقل، بإمكانه وبدون عناء كبير ان يعيد ترتيب جغرافية منطقة الشرق الأوسط بما فيها فكفكة وشطب وإلغاء أو دمج دول وإيجاد أخرى. ولأن وضع مصر حساس وهام وحيوي فكان لا بد من إشغالها وتحويل اهتماماتها من الدفاع عن العروبة والقومية إلى القضايا الاقتصادية والاجتماعية والمطلبية.

فإغراق مصر بالديون وإرهاقها ماديا وتوسيع قاعدة الفقر والعوز والبطالة وحرمانها من الموارد المالية لتنمية اقتصادها ونشر الفساد والإرهاب في ربوعها وتوجيه ضربات متلاحقة لها لشل قدراتها العسكرية بغرض إخراجها من ساحة الصراع تدريجيا أو بقائها على الحياد، كان هدفا استراتيجيا للولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وأعوانهما في الشرق الأوسط وقبلهما لبريطانيا وفرنسا وللاحتلال العثماني البغيض. وقد أدركت مصر مبكرا أهمية المشرق العربي باعتباره يشكل خط دفاعها الأول عن امنها القومي ، لذلك لم يكن غريبا قيام إبراهيم ابن محمد علي باشا بحملة عسكرية ضد الدولة السعودية الأولى التي جرت بين أعوام  1816و1819، فقضى على حكمهم، وأسر أميرهم عبد الله بن سعود وأرسله لأبيه  في القاهرة ثم قاد حملة ثانية إلى سوريا فيما عرف بالحرب المصرية العثمانية(1831- 1833)  والتي اعتبرت المواجهة الأولى في الصراع العسكري بين مصر والدولة العثمانية. ثم اتبعها بالحملة الثانية عام 1839 حيث تمكن الجيش المصري من سحق الجيش العثماني والذي كان على وشك الانهيار، لولا تدخل بريطانيا والنمسا ودول أوروبية أخرى التي هرعت، للتدخل لإجبار مصر على قبول معاهدة لندن. ونجحت بريطانيا في إشعال ثورات أهالي الشام ضد الوجود المصري مما أدى لاستعادة الإمبراطورية العثمانية لاحتلال سوريا مرة أخرى، وتم ابعاد مصر عن الشرق العربي بالقوة. ثم جاء الاستعمار الفرنسي عقب الحرب العالمية الأولى والذي استمر حتى العام 1946 تلته سنوات من عدم الاستقرار والانقلابات العسكرية وبعد تحقق الوحدة الاختيارية بين مصر وسوريا في شهر شباط عام 1958 تحالفت أنظمة عربية عديدة مع الغرب الاستعماري لإجهاض الوحدة بعد ثلاث سنوات ونصف من إعلانها. لكن أهمية سوريا الطبيعية بالنسبة لمصر بقيت كما هي وازدات رسوخا ووضوحا في الاستراتيجية والعقيدة العسكرية المصرية.

فتدخلت عدة مرات بمنطقة الهلال الخصيب ولبنان ووقفت بحزم ضد الاحلاف المركزية المدعومة من الأطلسي. ولم يكن موقف مصر من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والحروب التي خاضتها لاحقا وليد الرغبة أو الوطنية الزائدة، وانما كان دفاعا عن الامن القومي المصري بالدرجة الأولى. وما تم في شرق مصر تكرر في غربها وجنوبها ونيلها أيضا. لذلك فإن صمت وحياد مصر عما يجري في شرقها (سوريا وفلسطين بالدرجة الأولى) وغربها (ليبيا) وجنوبها (السودان ونهر النيل) باعتباره شريان الحياة الاقتصادية لمصر، يشكل تهديدا حقيقيا لدور مصر وعروبتها وتاريخها ومستقبلها. فمحاصرة مصر من الشرق والجنوب والغرب والتحكم بنيلها يُسهل لأعداء مصر والعروبة من الامعان في تفتيت الوطن العربي ونهب ثرواته. فهذه مقدمة ضرورية لتقسيم مصر إلى دويلات طائفية ومذهبية. فقوة مصر وعظمتها لا تنبع من عديد قواتها وعدد شعبها وانما من قدرتها على حماية المجال الحيوي لأمنها القومي الممتد من منطقة الخليج العربي والهلال الخصيب وبلاد الشام بمفهومها الطبيعي الواسع وببقاء السودان دولة موحدة وقوية وعزيزة الجانب وكذلك بالنسبة الى غربها حيث ينتشر اللصوص والإرهابيين وتسرق الثروات النفطية في وضح النهار.

وفوق هذا وذاك يتوجب ان تملك القدرة المادية على منع أي كان من المساس بمياه نيلها المتدفقة من الجنوب والتي بدونها لا حياة لمصر. فصمت مصر وحيادها وعدم اهتمامها بما يجري حولها ستدفع ثمنه غاليا في المستقبل القريب المنظور، وهذا ما يجب ان تتنبه وتتيقظ اليه مصر جيدا وربما هذه خلاصة ما أكد عليه الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل قبل وفاته بشهور في حلقاته المذاعة مع لميس الحديدي عبر محطة سي بي سي المصرية بعنوان" مصر اين ومصر الى اين، خريطة جديدة للمستقبل" والتي أورد فيها المخاطر المحتملة على الامن القومي المصري والتي لا تأتي غالبا الا من الشرق. فسوريا الضعيفة المنقسمة تشكل خط دفاع مهلهل ومشقوق ورخو لمصر كما وصمتها عما تفعله إسرائيل في فلسطين وخاصة لجهة إضعاف منظمة التحرير والسلطة الوطنية يشكل خطورة بالغة على الجانب الشرقي للأمن القومي المصري. فباستثناء حملة نابليون على مصر وفلسطين والتي تمت من البحر فإن كل المخاطر الحقيقية للأمن القومي المصري كانت تأتي من الشرق وما زالت وستبقى ما دام الاحتلال الإسرائيلي قائما وموجودا والفلسطيني ضعيفا ومنقسما. فدعم مصر لفلسطين وتقوية موقفها السياسي والعسكري والوقوف مع سوريا ميدانيا وسياسيا ووقف الحرب العدوانية على اليمن هو في الحقيقة دفاع عن مصر وامنها بالدرجة الأولى.


فقوة مصر ووحدتها نابعة من ثبات خطوط دفاعها الأولى في سوريا وفلسطين والسودان وليبيا ومنابع نهر النيل ومدخل باب المندب. فحينما تم العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 هب المشرق العربي كله للدفاع عن مصر وخاصة سوريا العربية. وحين سيقع العدوان على مصر لا سمح الله في قادم الأيام من قبل إسرائيل والغرب وبعض أدواتهما فلن تجد من سيقف معها لا في شرقها ولا في غربها ولا في جنوبها مما سيسهل سرقة مياه النيل كما يجري حاليا وستبقى تقاتل في الميدان منفردة كما تفعل الان سوريا والعراق وفلسطين وليبيا. ستندم مصر كثيرا لصمتها وعدم تدخلها فيما يجري حولها. فحياد مصر وعدم تدخلها الايجابي الفعال سيضعف من تأثيرها ودورها الإقليمي في افريقيا واسيا وغيرهما.

فالتأثير القوي لمصر لم يعد ملموسا على الساحتين العربية والإقليمية ناهيك عن الدولية. ومن المؤكد فإن عزوف مصر وصمتها عما جرى ويجري في شرقها وغربها ساهم الى حد بعيد فيما آلت إليه الأوضاع وتسلل الارهابين الى خاصرتها الرخوة في سيناء وغيرها. كما أدى صمت مصر إلى تمادي وغطرسة الاحتلال الإسرائيلي واصراره على تصفية القضية الفلسطينية واجهاض مقاومته الباسلة والتي تشكل دفاعا عن الامن القومي المصري.  ما كان معظم ما يجري ليتحقق لو لم تصمت مصر ويتم الهائها أو اشغالها بالإرهابيين في سيناء والقضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تنخر في جسم مصر العربي. وأخيرا نقول، ومن دافع الحب والغيرة على أرض الكنانة، فإذا اعتقدت بان صمتها عما يجري حولها سيؤمن تنمية اقتصادها وتحصين حدودها وامنها القومي فستكون واهمة جدا.

فالولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل ومعهما اصدقائهما في المنطقة لن تسمح لمصر بلعب دور إقليمي مؤثر. ولعل مصر وشعبها وجيشها يتذكرون جيدا ما فعلوه بها خلال العقود السبعة الأخيرة. فليس من مصلحتهم ان تغرق مصر ولكنهم بنفس الوقت سيتضررون كثيرا من قدرة ومهارة مصر على العوم والسباحة خارج حدودها الجعرافية الضيقة.

التعليـــقات